تجاوزنا أحاديث التوقعات المستقبلية إلى حديث الواقع المعيش. قضينا سنوات تدهور العمل الجماعي العربي نتخيل وضع العرب، دولا وعقائد وطوائف وأحلام في إقليم لا يحمل اسمنا وحده بل يتسع لنا وأسماء أمم أخرى. بعدها قضينا سنوات لا عنوان لها نستعد بكل ما أوتينا من قوة، وهى على ضخامتها بسيطة التأثير، ليكون لنا في الإقليم الجديد متسع لقدم عربية، لا أكثر. الأمل المتبقي ألا نعود سكانا في أراضٍ تابعة لحكم خلفاء ومستبدين ومستوطنين عنصريين.
***
تحمل السطور السابقة قدرا من المبالغة، ولكنه القدر المحسوب بعناية. بدأنا النهوض ولدينا فرص كثيرة لنتفوق على دول الجوار. ابتكرنا بداية محمودة لعمل إقليمي عربي. توافرت لدى عدد من دولنا إمكانات بشرية ومادية تسمح لنا على الأقل بأن نحتفظ بالفجوة العلمية والتقنية التي تفصلنا عن دولة أو أخرى من دول الجوار عند حدها الأدنى. كان الأمل كبيرا رغم كل العقبات. كاد يكون لنا منظومة أمن قومي تعتمد على سوق عربية واحدة. كدنا نحقق درجة من الاندماج الإقليمي العربي أعلى مما حققته أقاليم في أمريكا الجنوبية وأفريقيا وآسيا. كنا في حالات تكاملية بعينها نماذج تقتدى.
كانت لدينا من أسباب القوة في مرحلة من المراحل ما يبرر التطلعات. أسأنا التصرف فيها وبها. خدعنا أنفسنا. تصورنا النفوذ نتيجة حتمية ومنطقية للقوة المطلقة. راكمنا السلاح والتكنولوجيا والخبراء والقواعد الأجنبية مراهنين على نفوذ أكبر لدولنا في الإقليم والعالم الخارجي. أغفلنا حقيقة أن القوة مسألة نسبية، نسينا أن قوة الدولة، أي دولة، تنسب لقوة الدول الأخرى. تنسب أيضا لحال رضاء الشعب على حكامه أو تمرده عليهم، تنسب كذلك لموقع الدولة في حلف تنتسب إليه أو تعتمد عليه، كما تنسب للأهداف القومية أو الوطنية المبتغى تحقيقها. فقدنا النفوذ أو معظمه عندما فقدنا القدرة على التقدير السليم لقوتنا النسبية. أسأل، كما يسأل مراقبون آخرون: أي نفوذ لنا، كجماعة أو منظومة أو جامعة عربية، وخبراؤنا الاستراتيجيون لا يملكون حتى اليوم معلومات معقولة عن القوة “العربية” منسوبة إلى قوة إيران مثلا أو إسرائيل أو تركيا أو إثيوبيا أو جميعها معا لا قدر الله؟
***
أتابع، مثل كثيرين، الأداء الدولي لكل من إيران وإسرائيل وتركيا وإثيوبيا، ملاحظا بالعين المجردة، أي غير المدققة أو المتخصصة جدا، زيادة كبيرة في النفوذ الإقليمي وغالبا الدولي لمعظم هذه الدول في السنوات الأخيرة. العلامات كثيرة لا ينكرها من يعرف المنطقة وتطور استراتيجيات دولها وسياساتها الخارجية. قد يثار شك في مدى انطباق هذه الملاحظة على إثيوبيا مثلا. ولكن العالمين ببواطن أمور مفاوضات سد النهضة والعلاقات المصرية مع أفريقيا النيلية والعلاقات الإثيوبية مع المؤسسات الاقتصادية الدولية ومكانتها “الثابتة تقريبا” في القارة لعقود، يدركون مدى النفوذ الذي تمتعت به إثيوبيا وتتمتع في كثير من دول أفريقيا وإسرائيل وأوروبا في السنوات الأخيرة بالمقارنة بالنفوذ المنحسر لمصر وكثير من أعضاء الجماعة العربية خلال الفترة نفسها.
***
ينطبق على إثيوبيا بدرجة أقل مما ينطبق على تركيا وإيران وينطبق على إسرائيل بدرجة أكبر جدا مما ينطبق عليهما، عند الحديث عن زيادة في نفوذ دول الجوار وإن تقاربت الأسباب. بمعنى آخر، ازداد نفوذ الدول الأربع المجاورة لما كان يعرف بالنظام الإقليمي العربي. وإن إردنا ترتيبها حسب الدرجة التي ازداد بها نفوذها فقد لا يختلف المتابعون على الترتيب التالي. تأتي اسرائيل في المقدمة تليها أو تشاركها إيران وبعدهما تركيا ثم إثيوبيا. في كل الحالات كانت الزيادة في النفوذ متحققة، وأغلبه، أي أغلب النفوذ، تحقق في السنوات الأخيرة. يكاد سببان من أسباب عديدة لزيادة النفوذ يتشارك فيهما الجميع وإن تفاوتت الدرجة بتفاوت الظروف الدولية والداخلية في كل حالة على حدة.
***
أحد السببين وراء ازدياد النفوذ هو نجاح الأطراف الاقليمية جميعها في استثمار الظروف السيئة التي تسبب فيها رد الفعل القاصر وغير المسؤول من جانب قوى الحكم في العالم العربي لمظاهر وروح وأهداف الربيع العربي والجهود المستمرة حتى الآن من جانب هذه الحكومات لانتزاع جذوره. لم تقدر هذه الحكومات أهمية الحدث كفرصة لا تعوض للانتقال نحو نهضة حقيقية للأمة العربية. كانت فرصة يمكن أن تجتمع من خلالها العناصر النهضوية، أو حتى الإصلاحية، في دوائر ومؤسسات الحكم مع ملايين الشباب والعناصر المعتدلة في المجتمعات العربية للانتقال بهذه المجتمعات إلى مرحلة جديدة من مراحل التحديث، كانت الأمة العربية بأسرها في حاجة ماسة إليها. الغريب والمثير في الأمر هو أنه في عدد من الدول العربية التي اتخذت قرار وأد الربيع العربية في مجتمعاتها أو مجتمعات دول شقيقة أخرى، كانت في مقدمة الدول العربية التي سعت نحو تبني خطط تنمية فيها الكثير من جرأة التخطيط وشجاعة التنفيذ. كان يمكن لهذه الدول التي تصدت للربيع أو سعت لتمييعه أو تقمصته كسبا للوقت أو خداعا للمطالبين في الشارع بالتغيير، كان يمكن لها توفير كل الجهد والعنف والموت، لو أنها استفادت من حشود الربيع فأطلقتها طاقة للتغيير السلمي في مجتمعاتها، طاقة لا يتكرر وجودها.
لم توفر قوى العناد ومعها قوى الخداع الجهد والمال والعنف مفضلة الصدام. نشبت حروب أهلية في أكثر من موقع. تعسكر الربيع وفسد حين هيمنت عصابات مسلحة وتيارات سياسية مناهضة للإصلاح والتحديث وتدخلت دول كبرى. وقع فراغ السلطة في مواقع عديدة من العالم العربى زحفت لتملأه ميلشيات وقوى مدعومة أو جيوش منتظمة من دول الجوار. هذه الدول راحت تضع شروطها لعلاقات جديدة وتفرض قواعد عمل مبتكرة في الإقليم وتساوم بنفوذها المستجد في الدول العربية المنهكة لتحصل على مزايا أوفر تخدم علاقاتها بأوروبا وأمريكا. أليس هذا بعضا مما تفعله تركيا وإيران وإسرائيل الآن بعد أن أطمأنت جميعها إلى إخماد الربيع العربي الذي كان يهدد مصالحها وأحلامها في التوسع الإقليمي. الغريب والمثير أن بعض خطط التنمية والإصلاح التي خرجت من دهاليز التخطيط بدأ في تنفيذها ولكن متأخرا وفي ظل أصعب الأوقات وأعقدها. أكثرها الآن محفوفة مسيرته ومصيره بالمخاطر الخارجية والداخلية على حد سواء.
***
السبب الثاني في ازدياد نفوذ الدول الإقليمية تتحمل مسئوليته الدول الكبرى وبخاصة الولايات المتحدة. لقد اخطأت هذه الأخيرة حين اختارت تطبيق أسلوب توازن القوى لتنظيم علاقاتها بالقوى العربية والإقليمية في الشرق الأوسط والعلاقات بين بعضها البعض. أرادت إرضاء جميع الأطراف فعملت على تقويتهم جميعا وبنسب متقاربة. استخدمت هذا الأسلوب خلال الحرب الإيرانية ـ العراقية، ثم دمرت العراق لتقصر المواجهة على السعودية وإيران. وعدت مصر بالسلاح واستمرار المعونات وقدمت كل الدعم الممكن للإخوان المسلمين بما فيه الضغط على القوى الحاكمة فعليا في مصر وعلى القوى المدنية. انتهزت فرصة ثورة الربيع وبخاصة فراغ القوة في القاهرة واستفادت من التزام النظام الحاكم في تركيا تطبيق العقيدة الاسلامية لتشجيع قيام وتثبيت نظام حكم ديني في مصر.
لم تنتبه واشنطن، وقد دخلت فعلا مرحلة انحدارها، إلى أن سياسات توازن القوى تستلزم لنجاحها حدا أدنى من الاستقرار الدولي والإقليمي والمحلي. شرط لم يكن متوافرا على أي صعيد من هذه الاصعدة. لم تنتبه أيضا إلى خلاصات التجارب التاريخية في ماضي الشرق الأوسط وحاضره، وهى التي تكاد تجمع على أن النخب الحاكمة في الشرق الأوسط لم تثبت للغرب الولاء المستمر والكافي، وأن دول الغرب بقيت دائما غير مطمئنة لحلفائها في المنطقة أتراكا كانوا أم إيرانيين وعربا.
فات على أمريكا وحلفائها في ذلك الوقت وفي ظل ظروف خلفها حكم الرئيس مبارك والفوضى التي أنشبها تحالف فلول نظامه مع القوى والمؤسسات والجماعات المناهضة للإصلاح ضد ثورة الشعب المصري، فات عليها جميعا أن مصر، الدولة الأكبر سكانا في الشرق الأوسط، كان قد طال غيابها عن أداء أدوار اقليمية. بدت لفترة كدولة تعودت على الغياب فلم تعد أهلا لألعاب توازن قوى إقليمي أو تشكيل وقيادة تحالفات اقليمية تنهض بنظام إقليمي فاقد الرغبة في البقاء.
***
هكذا بدت لي بعض أسباب ازدياد نفوذ دول الجوار الإقليمي.
تنشر بالتزامن مع جريدة الشروق