نشر هذا المقال في جريدة “السفير” بتاريخ 25 تشرين الأول 2010
لم يعد مهماً معرفة الموعد الفعلي لاستصدار قرار المدعي العام للمحكمة الدولية الخاصة بلبنان في جريمة اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري.
لقد أنجز التحقيق الدولي مهمته الاستثنائية كاملة: حكم بالإعدام على مشروع «الدولة» التي كانت معتلة منذ استيلادها بالقرار الخارجي أول مرة، سنة 1920، ولم ينجح إعلان استقلالها السياسي سنة 1943 في تأكيد حضورها كحاضنة لآمال الشعب في وطنه الصغير، ثم بعد «تجديدها» بالقرار الدولي ـ العربي ـ عبر اتفاق الطائف في مثل هذه الأيام من العام 1989.
لقد استمرت «دولة قيد التأسيس» واستمرت وحدة شعبها موضع جدل، وإن نجحت الإرادة التي استولدتها في حماية «نظامها الفريد» برغم الحروب الأهلية المتكررة، بسبب من ضرورة هذه «الدولة» لمن أنشأها ورعاها وأدام وجودها ضعيفة ومعتلة وعاجزة عن الصمود لضغوط التعديل والتجديد من داخلها. ظل «النظام» هو الأساس، أما الدولة فهامشية قد تغيب لفترات ثم تستدعي الضرورة وجودها فتحضر حاملة أسباب سقوطها في عنقها.
ها نحن الآن على حافة انهيار الدولة، مجدداً… وها هي تنتظر رصاصة الرحمة عبر القرار الاتهامي في تلك الجريمة المهولة، بعدما تمّ له تحقيق إنجاز تاريخي يتمثل في انشقاق الشعب وتوزع أطرافه بين قضاة ومدانين لن تستطيع المحكة الدولية إتمام «المصالحة» في ما بينهم، خصوصاً أن إنشاءها كان نقطة الافتراق بينهم بمظاهره المختلفة، وأخطرها الانشطار على قاعدة طائفية ومذهبية.
وبمعزل عن الإساءة التي لا تغتفر والتي وُجهت إلى الرئيس رفيق الحريري عبر اعتباره «شهيداً» لبعض اللبنانيين، وخصماً بل عدواً للبعض الآخر منهم، فإن «الدول» قد تمترست في الفجوة الفاصلة بين الطرفين وهي تعمل على توسيعها كل يوم، تارة بأخبار مصنعة بإتقان «دولي»، وطوراً بتحقيقات بوليسية مثيرة، يرافقها دائماً سيل من الإدانات التي تتجاوز احتمال الخطأ أو الغرض كي يبلغ الشحن بالتحريض ذروته الكيدية المطلوبة.
[ [ [
وباختصار: منذ خمس سنوات ونصف السنة يحاكم اللبنانيون اللبنانيين، ويُدين بعضهم بعضاً بالقتل العمد أو التستر على القتلة بتزوير التحقيق والاستعانة بالخارج ـ دولاً ومجلس أمن ـ على الداخل، والاستقواء بالمصالح الدولية التي لا تعترف بالعدالة ولا تقرب النزاهة ولا تشفق على الشعوب المستضعفة، وأكره من تكره هي المقاومة بمختلف أشكالها لا سيما إذا كانت مصالحها بين أهدافها الأساسية، وأبرز هذه المصالح وأخطرها: إسرائيل!
هكذا يشارك اللبنانيون جميعاً في إعدام الحقيقة وقتل العدالة وتشويه صورة وطنهم الصغير الذي يتسابقون على تركه إلى أي مكان في الدنيا ليكونوا هناك «مواطنين» تحت القانون، ولو ظالماً!
أما أهل الطبقة السياسية فقد انقسموا ظاهرياً وإن ظل معظمهم شركاء في حصاد المنافع، بحيث استنزفوا «الدولة» حتى آخر مظهر من مظاهرها، حتى إذا جاء التحقيق الدولي أو جيء به احتكرت فئة منهم الحق الحصري في احتكار الحقيقة وتوظيفها بما يناسب مصالحها التي غدت ـ اعتباراً من لحظة المباشرة بالتحقيق ـ عنواناً لمصالح الدول التي لا تهتم كثيراً بالمآسي الوطنية لشعوب العالم الثالث عامة وللوطن العربي، خاصة، إلا كاستثمار سياسي توفر لها في لحظة شديدة الحساسية بالنسبة لعلاقاتها المتوترة مع شعوب هذه المنطقة: تبلور إسرائيل كمشروع استعماري ـ استيطاني سيغدو قريباً دولة يهود العالم، على حساب سلامة الدول العربية كافة بعنوان حقوق الشعب الفلسطيني في أرضه، ثم الاحتلال الأميركي للعراق بكل المجازر وحفلات القتل الجماعي وتهجير الملايين من أبناء شعبه وإغراق من تبقى في الداخل بدوامة من الصراعات السياسية التي لا تنتهي، لا سيما مع تهييج النزعة الانفصالية عند بعض الأعراق والعناصر المكونة لذلك الشعب العريق، ومع دفع التنافس على السلطة إلى الحافة الدموية للحرب الأهلية بين الطوائف أو حتى داخل الطائفة نفسها.
[ [ [
ها هو الوطن الصغير بشعبه جميعاً في قفص الاتهام مداناً سلفاً بجريمة الاغتيال، لا يملك حق الدفاع عن نفسه، بعدما بذلت «الدول» جهدها لضمان «سرية التحقيق» بحيث لا يعرف من تفاصيله إلا ما يخدم غرضها في توسيع مساحة الانشقاق بين اللبنانيين، عبر استغلال الاتهام السياسي لكل خصوم مصالحها في الخارج والداخل… فإذا ما حصل اعتراض أو تم توجيه طعن في بعض مجريات التحقيق استنفر مجلس الأمن، وأصدرت الدول العظمى (أميركا وبريطانيا وفرنسا) إنذاراً للشعب اللبناني بأن يلتزم حدود الأدب ويمتنع عن الاعتراض، وتم تحريك بان كي مون ليوجه الادعاء الدولي ويعيد التأكيد على عصمته التي لا تتأكد إلا بالامتناع عن توجيه أسئلة مستهجنة حول شهود الزور، مثلاً، أو حول تصرفات غير منطقية للمدعي العام الدولي الذي تكاثر معاونوه والناطقون باسمه في لبنان حتى ضاع أساس القضية!
في هذه الأثناء يتابع الشعب العنيد في هذا الوطن الصغير تشييع أبنائه، أطفالاً وشباباً وعجائز، من ضحايا حوادث السير، في حين تزدحم شوارع مدنه وطرقات قراه البعيدة بأصناف شتى من السيارات، بعضها حديث جداً وبعضها الآخر من مخلفات العصر الصناعي الأول..
… وتستمر أسعار المنتجات الوطنية مما «زُرع في لبنان» في الارتفاع، مثلها مثل أسعار البيوت بما يدفع المواطنين الصالحين إلى الرحيل عن العاصمة التي جعلتها «الداون تاون» وضواحيها منطقة محظورة لا يدخلها إلا أصحاب الثروات، حلالها والحرام المنهوب من خزينة الدولة، والذي لا يجد من يحاسب سارقيه أو مبذريه أو مسيئي الأمانة فيه، فإن تجرأ أحد على المساءلة تمت إضافة اسمه إلى قائمة المطلوبين للادعاء الدولي، تمهيداً لمحاسبته غداً في جريمة الاغتيال، بغير ما إشفاق على الرئيس الشهيد رفيق الحريري.
أنت لبناني: إذاً أنت متهم بالمشاركة، أو بالتواطؤ، أو بإخفاء الأدلة، أو بالتشهير بشهود الزور، أو بالتشكيك في سلامة الإجراءات القضائية في الداخل أو في الخارج… وكلها مدول ومحاط بحصانة لا يمكن اختراقها.
لكن حكومة الوفاق الوطني توالي عقد جلساتها فوق (في القصر الجمهوري) وتحت (في السرايا الحكومية) وتنقل الشاشات صور أعضائها من الإخوة ـ الأعداء وكلهم في غاية الابتهاج من أن أحداً لم يوجه إليهم الاتهام، بعد، بأنهم شهود زور، فضلاً عن محاسبتهم على أدائهم الذي لا نظير له في صحته أو كثافة إنتاجه في أية دولة من دول الدرجة الأولى في أقصى الأرض!