أنت تؤمن بالأمل؟ من أين يجيء الأمل؟ على اللبناني ألا يتورط في انتظار عودة الروح. من الأفضل أن يقيم في الإنكار. عليه أن يعتاد على الألم. الحلول الممكنة، مستحيلة. يكفينا هذيان الشكوى، وجدية المطالب والاقامة في الركام. يلزم أن نقيس قوة “الطغمة” و”السلطة” و”الطائفية” و”عصابات النهب” و”الارتهان الخارجي”، و”حقارة الأتباع” و”رطانة الكلام”، وفراغ السياسة من أي صدقية، حيث الكلمات ضد الكلمات. شيء من الهذيان على حافة الانتظار.
على اللبناني البائس الا يتورط ويُستدرج. ربما عليه أن يُجهد نفسه أكثر ليكتشف شتائم جديدة، تليق بحكام العباد والرقاب والمؤسسات. كما عليه أن لا يعوَل على الكلام كثيراً مهما كان عنيفاً ومصيباً، والافضل أن يعلن استقالته وانفصامه عن النظام والقانون والحكمة. على أن الفضيلة ليست بالصمت ابداً. بل في أن يكتشف اول الطريق، في رحلة الألف ميل وأكثر، إلى تغيير السلطة والنظام، وابادة آثار ما ستخلفه هذه الطبقة السياسية المزمنة من خراب. لبنان الذي احببناه، وحلمنا به انسانيا، صار عقاباً لنا، وعقوبة لأحلامنا.
لماذا كل هذا الألم؟ اليس من الافضل البناء على التفاؤل؟ نظرياً؟ بكل تأكيد. عملياً؟ كف عن الفشل. هل يعني أن نقيم في الصمت؟ لا أعرف. الذي يدفعني إلى هذه الحالة، أن القبضة التي رفعت في مطلع الثورة-الانتفاضة، ظلت من خشب. لم تصبح من لحم وعظم وعزم. القبضة مقيمة وحدها، ولكنها تدلُنا على تقصيرنا. لم نكن بسوية القبضة. حفنة صغيرة، تضاءلت في ما بعد، دفعتنا إلى أن نحزن على صلابة القبضة الخشبية واختفاء القبضات اليدوية… حتى القبضة تخلَفنا عنها.
لعلنا لم نكن نعرف أن “الاعداء” اقوياء جداً، جداً، جداً. لم يسبق أن هزموا في معركة. لا أحد أقوى من الطائفية السياسية. انها سد منيع، يمنع أي حفر في اساساته وفي بنيانه. الطائفية السياسية هي دين الدولة. ومعروف أن عدداً وافراً من “الثوار”، يريدون تحسين وتجميل الطائفية بماكياج حديث. انهم “الثوار” الكذبة.
إذا لم يُدك الاساس، فعبثاً. الأدلة كثيرة. لم يجمع الحراك على أن اساس التغيير، يقوم على بناء قوة مدنية علانية، بهدف الغاء كل ما له علاقة بالدين والطائفة. إذا لم يجتث هذا الاساس المنيع، فعبثاَ. “الحق للقوة”. وهم الأقوى، برغم خلافاتهم الدائمة على حصة كل طرف من جسد لبنان، الجسد الطريدة، او الجسد الفريسة.
هل يعقل، بعد عام على الثورة-الانتفاضة، أن تستأسد القوى الملعونة، على الماضي والحاضر والمستقبل. أن تستقوي إلى درجة تكليف نفسها بإعادة الحياة إلى لبنان. العالم كله يعرف انهم عصابة، ومهنتهم اللصوصية، وغايتهم غنائمية، وبقاؤهم موت لأهله، أي لأهل لبنان الثكالى واليتامى… هذه العصابات، أوكلت لنفسها اعادة البناء بكل ما قاموا بتهديمه. وهي التي اذنت بالتدقيق المربوط جنائيا بموافقتهم.
أعجب مشهد، كان مشهداً بالغ السخرية والتفاهة، أن تُلقى كلمة رئيس الجمهورية في البرلمان، بعد خطاب الاستقلال الاتهامي، ويوافق المجلس، كل المجلس النيابي، على احتضان التحقيق الجنائي وتبنيه والسهر على خطواته… كلا، لم يستسلم المجلس الحالي الطائفي في البرلمان. لقد اعطى باليمنى ما اخذه باليسرى. كذب المجلس عندما اجمع على فتح ابواب التحقيق على مصراعيه. اذ، لا يعقل أن يسمحوا لأي لجنة مستقلة ومحايدة، أن تدقق بسماسرة ولصوص النهب المنظم جداً، والشامل كلا، والمعروف من سيمائهم وثرواتهم وحساباتهم وارزاقهم وقصورهم وما كنزوه من نهب وسرقة وتسلبط… طبعاً، لا يمكن تصور انهم سيسمحون لأي لجنة تشير إليهم بالبيان من بعيد، بأنهم المرتكبون. لا يمكن تصديق المعنيين سياسيا وطائفياً، بأنهم يقبلون بأن تسلَم اعناقهم للتدقيق الجنائي…
هذا النظام قوي جداً، ليس فقط بسبب طائفيته السياسية فقط، بل لأنه عمَم نهج السرقة والنهب والاحتيال على مجمل المؤسسات والوزارات والمجالس واصحاب المواقع. وأفدح ما ارتكبه، تجرؤه على شراء القضاء، من زمان بعيد إلى آجال جديدة.
هل هذا قضاء؟
لم يبرهن ابداً انه نظيف الكف والضمير، قليلون جداً من كانوا خارج السرب. هؤلاء، خاضوا معارك نبيلة، انما، بقوة دونكيشوتية. القضاء في لبنان عليه.
إذا ماذا؟
لا أعرف. انه لمشهد اغريقي مأساوي. لبنان لن يتعافى من أي مرض. غير معروف أن كان سيبقى حياً، ام سيقتلونه علناً، على مرأى من الحزانى الذين ليس لديهم سوى ذرف الدموع عليه.
ويقول لك البعض: لماذا لا تراهن على الأمل؟
الجواب: قولوا لنا، كيف ومتى ومن؟
ما زلنا حتى الآن، نستعد للأسوأ. آمل أن تطول فترة الاسوأ، مع وقف التنفيذ، قبل أن يرفع الكيان برمته، تحية الوداع. صدقا، نحن أردناه برغم كل ما اصابه. ولكنه، لم يكن يريدنا ابداً. كان كيانا مصابا بعلة منذ ولادته. منذ ولادته وهو طائفي بجرعات متزايدة. وصل اليوم إلى حد التخمة والاختناق. وإذا ظل كذلك، كما هو ظاهر جداً، فلائق بنا أن نذرف دمعة مع تحية الوداع.
بعدها، لا نفعل سوى أن نصمت.
انني أكره هذه النهاية.