ليس من »حدث صغير« في هذا »البلد البلا داخل«…
فأي أمر، وكل قرار أو تدبير مرشح لأن يجد من يعظّمه ويضخّمه حتى يجعله في حجم المسألة المصيرية!
وليس من »حدث محلي« في هذا الوطن الصغير والمفتوح على كل ريح…
فلا مسافة فاصلة بين »المحلي« و»الإقليمي« و»الدولي« بدءاً بجريمة نكراء تقع في دائرة حكومية، مروراً بانتخاب فرعي في بعض الجبل، وصولاً إلى إتلاف الحشيشة في البقاع، فإلى خلاف داخل الحكم حول عائدات الهاتف الخلوي وانتهاءً (؟) بحكم قضائي كالذي صدر منتصف الأسبوع الماضي عن محكمة المطبوعات وقضى بالإقفال التام لمحطة تلفزيون أم. تي. في. ومعها إذاعة جبل لبنان.
وبين مساء الأربعاء حين تلاقى العاملون في الإعلام، الذين اعتبروا أنفسهم معنيين مباشرة بانعكاسات الحكم على الحريات العامة، وفي الطليعة منها حرية التعبير وحق الاختلاف وحق الاعتراض، وبالتالي على المهنة التي يتشرفون بالانتماء إليها، ودورهم الذي كان ويريدونه أن يبقى ريادياً… وبين مساء يوم الجمعة صار إقفال »المحطة« قضية دولية من الدرجة الأولى!
تصدّرت السفارة الأميركية في بيروت، في تصرف أخرق لا يمكن قبوله أو التسليم به، حملةَ الدفاع عن الحريات، منبهة الى أنها »شديدة القلق« حول »التزام لبنان حرية الصحافة«… في حين اكتفت الخارجية الفرنسية بموقف مبدئي يدعو الى ضرورة احترام الأصول في أي نظام ديموقراطي…
أما على المستوى الداخلي فقد »زوربت« المسألة، عبر التناقضات السياسية القائمة والدائمة بين القوى المختلفة، فإذا هي اليوم غير ما كانته قبل أيام، وإذا موضوع الحكم القضائي صار العنوان الجديد للخلافات القديمة والتي تتحول بغمضة عين من سياسية الى طائفية، ومن »محلية« مغرقة في محليتها الى »دولية« لها أبعادها الخطيرة على »معنى الوجود اللبناني« وعلى مستقبل الكيان اللبناني، وبالاستطراد مستقبل المسيحيين في لبنان والمنطقة!
وهكذا، يتحول الاختلاف في الرأي الذي لا يُفسد للود قضية، إلى انقسام حاد يكاد يذهب بالود وبالقضية وأهلها!
* * *
مساء الأربعاء الماضي، قصدنا في من قصد الى مبنى المحطة في الأشرفية، إظهاراً للتضامن، في الإطار المهني وهو موقف مبدئي بديهي وإن كان له بعده السياسي…
كان الشارع مسدوداً بقوى الأمن في مواجهة مجموعات من الشباب وموظفي المحطة، في حين كان عدد من رجال السياسة يتوافدون لإعلان التضامن. وكان سهلاً أن يتبين أي مراقب سيادة »اللون الواحد« سواء داخل المحطة أو في الشارع خارجها: في الداخل كانت الأكثرية الساحقة ممن جاءوا لإعلان تضامنهم ممن يتجمعون في إطار »قرنة شهوان« بطروحاته المعروفة. أما في الشارع فسرعان ما بدأ »العونيون« يتزايدون حتى طغوا على جماعة »القوات اللبنانية« والفرق الكتائبية خارج القيادة الرسمية والتي تمتد من »جماعة بكفيا« الى »جماعة بشير الجميل«…
ومع مكبرات الصوت المرددة لأناشيد تحفل بكلمات العنفوان والكرامة والمقاومة تزايدت حماسة الشباب المتجمهرين حول مبنى المحطة… وإن كانت الحماسة ظلت مشوبة بشيء من التظلم والاتهام الضمني »للآخرين« بالتسبب في الخيبة والغبن والإحباط!
كان طبيعياً أن تُنقل المسألة برمتها الى دار نقابة الصحافة، بعيداً عن الاستثمار السياسي، وعن تهييج الشارع، الذي لا بد سيتخذ بُعداً طائفياً يؤذي قضية الحرية أولاً، ويضعف موقف التضامن المبدئي الذي تلاقى عليه الجميع، بغض النظر عن مدى الاتفاق أو الاختلاف مع الخط السياسي الذي التزمته محطة أم. تي. في..
وفي دار نقابة الصحافة، وفي إطار حضاري يليق بسمعة لبنان وبدوره الرائد في حقل الإعلام، تلاقى الإعلاميون على اختلاف اتجاهاتهم وآرائهم السياسية، وأعلنوا تضامنهم كموقف مبدئي مع الأخذ بالاعتبار أننا أمام حكم قضائي، لا أمام تدبير إداري، وأنه لا بد من حماية القضاء ودوره الحاسم باعتباره الضمانة الأعظم للحريات والحصن الأخير لمقاومة الخطأ، ولرد الظلم عن المظلوم، والملجأ الأخير في وجه شطط الحاكم سواء بالغرض أم بضيق الصدر أم بالإسراف في استخدام صلاحياته.
لم يكن أحد بحاجة الى »نصائح« السفارة الأميركية، بمعزل عن حقيقة أننا أكثر حرصاً على حقوقنا في بلادنا، ومنها حرياتنا، وبينها حرية الاختلاف مع الحاكم متى أخطأ، من السفارة الأميركية (أو الخارجية الفرنسية) أو أية جهة أجنبية أخرى.
ولقد حدث ما خشينا حدوثه: لقد خرجت المسألة من إطارها المهني والنقابي والسياسي المحلي، الى مدار آخر تماماً مع تدخل العنصر الخارجي، وها هي تكاد تضيع في سياق المجهود الذي يبذله بعض المتعيشين على التهييج الطائفي.
ولقد أحسن البطريرك الماروني التوصيف حين قال في عظة الأحد (أمس) ما مفاده أن »خلافاً عائلياً بين أخوين يكاد يجر البلاد الى فتنة تتهددها«.
* * *
قد يرى كثيرون في الحكم الصادر عن محكمة المطبوعات »انحيازاً« الى موقف السلطة، أو »تعزيزاً لجانبها« في ذلك الخلاف العائلي بين الأخوين اللدودين. وقد يقرأونه على أنه »حكم سياسي«، وأن »السلطة« تحاول توظيف القضاء في معاركها ضد خصومها.
لكن الحقيقة التي لا مجال للقفز من فوقها: أنه حكم قضائي، ولا بد من معالجته بداية بالإجراءات القانونية، خصوصا أنه يحمل في نصه ما يؤكد أنه »قابل للمراجعة والتراجع«، حسب الأصول. ثم ان حماية القضاء تتخطى كونها واجباً وطنياً الى أنها »مصلحة« مباشرة للمواطنين عموماً وللإعلام خصوصاً، الذي يرى البعض أنه مستهدف في هذه الفترة أكثر من أي يوم مضى.
على ان الوجه الآخر للصورة أشد إظلاماً: فالنصيحة الأميركية تتجاوز كونها تدخلاً مباشراً في الشؤون الداخلية، لتغدو جزءاً من الحملة الأميركية الشاملة على مجمل العرب (والمسلمين) في هذه اللحظات بالذات.
وإذا كان البعض قد اعتبر التدبير الاحترازي ضد المحطة المقصودة »ظالماً« و»مغرضاً« سياسياً، فإن النصيحة الأميركية يمكن اعتبارها »اغتيالاً« مباشرا لهذه المحطة، وعملاً عدائياً تجاه الإعلام في لبنان، عموماً، يحرض عليه، ويضعه في »خانة« لم يقبلها يوماً ولا هو يرتضي أن تكون السفارة الأميركية أحرص عليه من القضاء وحتى من الحكم في بلاده، ولو كان على أشد الخلاف معه.
ولا تستطيع الولايات المتحدة الأميركية، اليوم، ان تدّعي حماية الحريات، بينما هي تخوض »حروباً« شرسة ضد العرب في معظم أقطارهم: من مصر إلى السعودية ومن العراق الى اليمن، في حين تهدد سوريا »بمحاسبتها« عن دعمها »للإرهاب«، وتطلق الإنذارات ضد لبنان مطالبة سلطته بضرورة التخلص من »حزب الله« عنوان مقاومته المجيدة للاحتلال الإسرائيلي.
لا تستطيع هذه الدولة الجبارة التي تحمي وترعى سياسة المذابح الجماعية والتدمير المنهجي لأسباب الحياة التي يقوم بها أرييل شارون ضد شعب فلسطين، ان تبدو »ملاكاً« في لبنان، يدعو الى الخير والعمل الصالح ويرعى نبتة الديموقراطية!
ومع الاستمرار في خوض معركة الدفاع عن الحريات العامة، والإعلام أولها وعنوانها، فإن الواجب يقضي بأن نحمي هذه المعركة من خطرين يتهددانها بالخسارة: الطائفية والتدخل الأجنبي.
بقي أن نعرف: مع مَن مِن الأخوين اللدودين يقف جورج بوش؟!
بحث
Subscribe to Updates
Get the latest creative news from FooBar about art, design and business.
المقالات ذات الصلة
© 2025 جميع الحقوق محفوظة – طلال سلمان