في حِكَم القدامى أن من شاور الناس شاركهم في عقولهم ..
.. ونتمنى أن تنجح المشاركة في العقول بين المتشاورين لتنجح، من ثم، المشاركة في الحكومة، بما يحفظ ما تبقى من عقول ومن أسس الاشتراك في الوطن والارتقاء بالعيش المشترك إلى الوحدة الوطنية.
.. ونرحب باتفاق جميع المتشاورين على أن يرموا الإعلام بدائهم وينسلّوا، موجهين إليه الاتهامات بإثارة النعرات الطائفية والمذهبية وتهديد السلامة العامة وتقديم نصر مجاني للعدو الإسرائيلي على حساب الوطن، واستقدام الدول الكبرى إلى هذا البلد الصغير لتحوّله إلى أرض صراع على المواقع والمصالح على حساب أهله..
ومع الرغبة في الابتعاد عن هذا المنطق الأشوه فلا بد من التذكير بأن معظم ما تبثه أو تنشره وسائل الإعلام هو كفر منقول عن السادة الأقطاب السياسيين، من أهل الحكم أو أهل الاعتراض، وكلهم مشارك في المشاورات التي تستهدف التهدئة والعودة عن الكفر إلى الإيمان.
وجميل أن يكون القرار الوحيد الذي اتخذوه أمس هو: الهدنة الإعلامية!
إن الإعلام هو بعض نتاج السياسة وليس صانعها، وبالتأكيد فإنه يتحمّل من المسؤولية بقدر ما يوسّع السادة الأقطاب السياسيون الهامش أمامه بنقل أفكارهم السديدة وطروحاتهم الفريدة واقتراحاتهم الرشيدة..
وبالتأكيد فإن المواطن الباحث عن الاستقرار وفرصة العمل اللائق والاطمئنان إلى مستقبل أبنائه في أرضه، لا يستفيق صباحاً فيبادر، أول ما يبادر، إلى قراءة مقال في صحيفة، أو يستمع إلى تعليق إذاعي أرضي أو فضائي فيفور دمه، ويشعر بالإهانة والاستفزاز فيسعى إلى سلاحه ثم ينزل إلى الشارع ليقاتل المختلف معه في الرأي.
بل إن السادة الأقطاب السياسيين يعتمدون، أكثر ما يعتمدون، على الجمهور الذي لا يقرأ، والذي يكتفي بالنشرات الخاصة أو بالشائعات أو الهمسات المحمومة التي تحرّضه على الآخر وتصوّره وكأنه هو بالذات من يمنع عنه نور الشمس.
ليست هذه الكلمات دفاعاً عن الإعلام ، فالإعلام معلَم من معالم الحياة السياسية ولكنه ليس صانعها..
وإذا كانت السلطة هي موضوع الصراع بين القوى السياسية فإن الإعلام ليس طرفاً في السلطة… وحتى بعض منابره التي تلعب دوراً مؤثراً، بالسلب أو الإيجاب، فهي إنما تعبّر في ذلك عن مواقف مالكيها أو أصحابها أو المساهمين في ملكيتها من أطراف السلطة. هل نسينا أن محطات البث التلفزيوني الأرضي والفضائي مملوكة لجهات أو قوى سياسية نافذة في لبنان… ومشاركة في السلطة بهذه النسبة أو تلك، أو تسعى إلى السلطة بهذا الأسلوب أو ذاك؟
وإنها لمن المفارقات أن تختلف القيادات السياسية على حصة كل طرف في سلطة وطن، بينما تكاد تُجمع بالاتهامات المتبادلة على أن هذا الوطن الصغير لا يحكمه أهله، بقدر ما تتحكّم فيه التوازنات الدولية والمساومات الإقليمية والحروب الإسرائيلية… ومعها، أو نتيجة لها: الغرائز الطائفية والمذهبية.
هل من الضروري التذكير ببعض البديهيات المنسية ومنها:
إن الوطن الذي اتسع لكل هذه الطوائف والمذاهب التي تحتشد فوق أرضه الضيقة لا يمكن أن ينفرد بحكمه شخص أو حزب أو تيار، ومن باب أولى، أو طائفة أو مذهب.
إن السلطة في بلد كلبنان تقوم على توازنات دقيقة إلى حد الهشاشة بحيث إن أي اختلال أو إخلال بشروطها يكسرها فيسقطها.
إن التلاقي بين زعماء الطوائف لا يصنع وحدة وطنية إلا بقدر ما يبتعد كل منهم عن خيمته الطائفية مقرراً أنه لا بد من التلاقي مع الآخرين لاصطناع صيغة قابلة للحياة ليبقى الوطن آهلاً بسكانه، وإلا تفجّر الكيان بدولته والسلطة مستدعياً بذلك كل أنواع التدخل التي قد تصبح ضمانات العيش المشترك!
وهذه أقطار الجوار من حولنا شاهد وشهيد، إذا كنا قد نسينا تجاربنا المفزعة على امتداد تاريخ لبنان الحديث الذي يحتاج كل بضع سنوات إلى معجزة تحفظ فيه السلطة على حساب الدولة … ومن ثم يستمر غياب الوطن باستمرار تغييب مواطنيه في دهاليز الطوائف والمذاهب التي تستدعي التدخل وهي تهتف للسيادة والديموقراطية والاستقلال… بكل العنفوان والإباء الأشم!
هل هذه الكلمات خرق للهدنة الإعلامية؟!
نشر هذا المقال في جريدة “السفير” بتاريخ 7 تشرين الثاني 2006