هذه قضية رأي عام مستحقة، تدخل في شواغله وصلب مستقبله.
مجمع الحديد والصلب، أكبر صرح صناعى مصرى، الذى تأسس قبل (67) عاما، يراد تصفيته الآن.
هكذا بقرار إدارى مفاجئ من جمعيته العمومية غير العادية، بدواعى ديونه المتراكمة وعدم قدرته على العودة للإنتاج مجددا.
باليقين ليس من حقها تصفية المجمع العملاق، كما لو كان محل بقالة تملكه، دون أن يكون لملاكه الحقيقيين، الشعب المصرى كله، كلمة تسمع.
مجمع الحديد والصلب ليس محض شركة، بقدر ما هو معنى ورمز فى معركة استقلال القرار الوطنى وطلب التنمية المستدامة بالانتقال إلى مجتمع صناعى متقدم.
تحديثه ضرورة وتصفيته خطيئة تستدعى مساءلة الذين أصدروا ذلك القرار دون تدبر لعواقبه على مستقبل (7500) عامل مرشحين للذهاب إلى المجهول، ودون عناية بغضب اتحاد العمال وصدمة الرأى العام، ودون إدراك للمعانى والرموز التى ارتبطت به فى التاريخ المصرى المعاصر.
منذ تسعينيات القرن الماضى تعرض مجمع الحديد والصلب، الذى لعب أدوارا جوهرية فى بناء السد العالى وحائط الصواريخ أثناء حربى الاستنزاف وأكتوبر، لعوامل التجريف بالفساد المنهجى وسوء الإدارة.
كان ذلك مقصودا حتى نصل إلى تصفيته والتخلص مما يرمز إليه من معانٍ كبرى.
ألهم المجمع فكرة التضحية فى سبيل البلد، حتى يمكنها أن تمضى قدما فى بناء أسس نهضتها.
بعد هزيمة حزيران/ يونيو (1967) أصاب اليأس رجل المخابرات «رفعت الجمال» الشهير بـ«رأفت الهجان»، الذى اخترق المجتمع الإسرائيلى، نظمت زيارة له إلى مجمع الحديد والصلب لرفع معنوياته وأن هناك ما يستحق المخاطرة بالحياة من أجله.
بقوة المعانى والرموز طرح مواطنون عاديون على شبكة التواصل الاجتماعى فكرة شراء أسهمه إذا ما طرحت فى البورصة حتى لا يقع فى يد لصوص المال العام، أو شركات أجنبية تنتهك حرمة تاريخه ورمزيته.
بدأ التفكير فى مشروع التصنيع المصرى، منذ الأيام الأولى لثورة تموز/ يوليو (1952).
كان أحد الأسئلة الجوهرية، التى اعترضت «جمال عبدالناصر» ورفاقه قبل أن تكتسب حركة يوليو صفة الثورة:
أين الأولويات التى لا ينبغى تأجيل البت فيها حتى لا تنشأ أحوال تضرب فى أى استقرار اقتصادى، أو يتولد إحباط عن مستوى الالتزام بتحسين الأحوال الاجتماعية وفق المبادئ المعلنة؟
بضغط السؤال بحثا عن طريق جديد نشأت فكرة «مجلس الخدمات».
وبإرادة العمل بحثا عن إنجاز ملموس شرع المجلس الجديد فى تنفيذ ما هو مؤجل من مشروعات تبنتها خطابات العرش دون أن تجد طريقها للتنفيذ كـ«حديد أسوان» و«كهربة خزان أسوان» و«خط قطارات القاهرة ــ حلوان» قبل أن يشرع فى مشروعات «الحديد والصلب» و«كيما» و«عربات السكك الحديدية».
برز مبكرا مشروع «السد العالى» أثناء إعداد «مجلس الإنتاج» لدراسات وأبحاث حول المشروعات المقترحة ـ حسب «محمد صدقى سليمان» الرجل الذى أشرف على بنائه وترأس الحكومة فى ستينيات القرن الماضى.
تصدر «مجلس الإنتاج» أفضل العقول الاقتصادية المصرية فى ذلك الوقت من أبرزهم الدكتور «راشد البراوى» والدكتور «على الجريتلى».
لا يمكن الادعاء أن المشروعات الكبرى فى سنوات يوليو أسندت إلى أهل الثقة على حساب أهل الخبرة، أو أن المدنيين استبعدوا لحساب العسكريين.
على سبيل المثال أسند ملف التصنيع إلى الدكتور «عزيز صدقى» وملف الزراعة إلى المهندس «سيد مرعى»، وملف تحديث شبكة الاتصالات والطرق والسكك الحديدية إلى الدكتور «مصطفى خليل».
نجحت «يوليو» فى استقطاب وتوظيف الكفاءات المتخصصة، وأغلبها حصلت على تعليم متقدم فى الجامعات الغربية، داخل مشروع أخذ يكتسب بالوقت معالمه الواضحة وتوجهاته المحددة.
تبدت قوة المشروع فى مدى الخبرات التى توافرت له وتصميمه السياسى على إحداث تحول جذرى فى بنية المجتمع المصرى.
إذا كان السد العالى هو المشروع الذى تبلورت حوله معارك التنمية واستقلال القرار الوطنى، فإن مجمع الحديد والصلب هو المشروع المؤسس للنقلة الصناعية الكبرى التى طلبتها مصر فى ذلك الوقت.
إذا كان هناك من يعتقد أن استقلال القرار الوطنى يُمنح ولا يُنتزع فهو واهم، فلكل استقلال تكاليفه وتضحياته ومعاركه.
اكتسبت مصر استقلالها الوطنى الكامل فى حرب السويس بفواتير الدم المبذولة وشجاعة أبنائها الذين هرعوا لحمل السلاح فى مواجهة العدوان الثلاثى.
جرى بناء السد العالى أكبر مشروع هندسى فى العالم بالقرن العشرين، وبنت «يوليو» بقدر ما استطاعت مصانع ومدارس ومستشفيات وعمرت الريف ونهضت بالطبقة الوسطى، انحازت إلى قوى الإنتاج والطبقات الأكثر حرمانا.
المشروعات الكبرى تُقاس بنتائجها السياسية والاجتماعية، كما أرقام عوائدها الاقتصادية.
هكذا كان مجمع الحديد والصلب.
كل نقد لتجربة يوليو مشروع وطبيعى، طالما استند على معلومات مدققة وقراءة فى الأرقام قبل إصدار الأحكام باجتهاد، غير أن تجربتها لا تضارعها أية تجربة مصرية أخرى من حيث التزامها قضية العدالة الاجتماعية وحجم الحراك الاجتماعى الذى أحدثته.
لم يكن تأميم القناة سوى خطوة فى مشروع امتد إلى كل مناحى تحسين جودة الحياة، وإشاعة العدل الاجتماعى.
ولم يكن تشييد مجمع الحديد والصلب سوى خطوة أخرى لبدء عصر التصنيع الثقيل.
السياسات أخذت زخمها من قوة الفعل وحجم التطلع إلى تحسين أحوال المواطنين، وأخذت تتبلور من خطوة إلى أخرى حتى اكتسبت «يوليو» مشروعها.
ما معنى أن يكون هناك مشروع قومي؟
هناك من يتصوره محض مشروع اقتصادى، أو زراعى، أو صناعى كبير، تحشد من حوله الطاقات والقوى وتكتب وتلحن من أجله الأغانى ـ فى طلب نفس الأثر الذى أحدثه مشروع «السد العالى» دون الخوض فى معارك سياسية أو عسكرية، كالتى جرت بسببه ومن حوله.
لم يكن السد العالى سوى معركة فى حرب حقيقية حول المنطقة ـ بند فى مشروع، وليس كل المشروع!
هكذا كان مجمع الحديد والصلب.
كانت معركة شاملة دخل الفن طرفا فيها.
معركة لم تصنعها «الأغانى»، بل هى التى صنعت أغانيها.
تصدر «صلاح جاهين» مشهد الأحلام الكبرى.
بقدر ما أخلص لاعتقاده أثرت أناشيده جيلا بعد آخر، رغم ما ألم به من اكتئاب حاد بعد هزيمة «يونيو».
فى أشعاره تبدت قدرات لا تتوافر لغيره تبسيطا لأعقد الأفكار السياسية بلغة يفهمها الناس جميعهم على اختلاف ثقافتهم ومستوى تعليمهم.
عند مطلع القرن الجديد استعاد المفكر الاقتصادى الراحل الدكتور «جلال أمين» تجربته مع يوليو، على نحو لخص ما حدث فى مصر من تحولات فى مستويات المعيشة أثر الدخول فى عصر التصنيع الثقيل، وفى القلب مجمع الحديد والصلب:
«عندما عدت من البعثة فى ١٩٦٤ لم يكن لدى أى شك فى صحة اتجاهات عبدالناصر وفلسفته، وقد تبينت فيما بعد، عندما ظهرت الأرقام وأمكن النظر إلى تطور مصر الاقتصادى، أن ما كان يحدث فى مصر اقتصاديا واجتماعيا، بصرف النظر عن مشكلة الديمقراطية، منذ ١٩٥٦ وحتى ١٩٦٥، كان أفضل ما مر فى تاريخ القرن على الأقل، لم نكن فى ذلك الوقت نرى إلا الجزئيات، ولكن حياتنا اليومية كانت تعكس هذا التطور الرائع فى حياة مصر».
لقد حدث أوسع حراك اجتماعى سمح لأعداد غفيرة من الطبقات الدنيا ظلت محرومة قرونا طويلة بالترقى فى جودة الحياة ومستويات المعيشة والصعود إلى سطح الحياة، والانتفاع بثمرات التنمية والتعليم والتقدم.
أهمية تلك الشهادة أن صاحبها ليس ناصريا.
كما أنه يتميز بحس نقدى لا يدارى ما يعتقد فيه.
بقدر تعبير أية شهادة عن اعتقاد صاحبها تكتسب دلالتها.
وبقدر موضوعية النظر تكتسب تأثيرها.
فى قضية مجمع الحديد والصلب معان ورموز يصعب إنكارها، أو التنكر لها.
ينشر بالتزامن مع “الشروق” وموقع post180