ماضي لبنان لا يموت. وحده، مستقبله ميت. لا جديد أبداً. ينوء البلد بماضيه. الذاكرة حفظت الكوارث ومرتكبيها. ما نعيشه اليوم، رواسب متوازنة. الاجداد، ظنوا، أنهم سيصنعون وطناً ودولة وشعباً. فاتهم انهم اهل اختصاص بالفشل. عدة الشغل السياسية ليست صالحة لبناء وطن واقامة دولة وانشاء نظام. انشأوا كيانا غير قابل للحياة، تنخره منذ ولادته الأولى، غدة سرطانية، تميت ولا تموت. لا نظلم الاجداد إذا أنكرنا عليهم ما ارتكبوه. تحاصصوا لبنان بجشع معتدل نسبياً. ورثتهم، من الابناء والاحفاد، الزعماء الزعران الراهنين، سلالة لم يعرف التاريخ لها شبيهاً. لعنة سياسية عليا تخيم على الكيان. شعب يائس، لا يتوقع غدا أفضل. يترحم على ماضٍ سيء، لأنه يخشى غداً كارثياً.
هل هذا قدر لا فكاك منه؟ أهو لعنة سيزيفية ولا خلاص؟ كل بارقة امل سراب؟ ألا يشعرون أن عبيدهم بؤساء، وملزمون بخدمتهم ومسَح احذيتهم بجباههم، مقابل مرتب شحيح ومستقبل حاف وايام فادحة؟ ما بلغه لبنان منذ الطائف إلى اليوم، لم يسبقه اليه أحد. الطائف وحدًهم بعدما منح كلاً منهم حصة لا تنازل عنها. أعطى السنة ما حُرموا منه قبلاً. أخذ من الموارنة ما اساؤوا فيه التصرف والتسلط. اعطى الشيعة أرجحية مدعمة وحفظ للدروز مكانتهم، وما تبقى من فتات وزع على المحرومين عددياً: طوائف ومذاهب الدرجة العاشرة.
كان متوقعاً أن يسود “العدل الناقص”، لسنوات قادمة. بدا وكأن هناك غالب ومغلوب، إلى أن تأكد لهم جميعاً، أنهم مغلوبون، والغالب قبضة سورية ممسكة بالإقفال والمفاتيح والابواب والنوافذ. الشيعة كانوا استثناءً، لأنهم حظوا بدعم فائض، نقلهم من رتبة الغلابى إلى موقع الغالبين.
أُخرج السوري بعد مقتل الحريري. فقد كان كل وجوده. خلَف وراءه احقاداً قديمة ومستجدة. وحدهم الشيعة ظلوا على تواصل وتحالف. لم تغلق بوابة دمشق بوجه “امل” و”حزب الله”. الأوركسترا اللبنانية التي كانت تعزف السياسة السورية، انتقلت إلى معسكر الهجاء لسوريا والتبرؤ منها. عاد الموارنة من المنافي والسجن. تجمعوا ليستعيدوا مكانة الرئاسة. المارونية في الزمن السوري، مكانة مهلهلة. رئاسة بلا جمهورية. حكومة لا تحكم. تأتمر وتطيع. كانت سوريا الالف والباء. الموارنة سعوا إلى ابجدية جدية ولكن…
نختصر: الشكوى من السوريين كان لها ما يبررها. انما، لماذا لم يتمكن الموارنة والسنة والشيعة والدروز و… من حكم لبنان، علماً، أن كل طائفة لها من يدعمها ويؤيدها أو يملي عليها ما تريد؟ مع ميشال سليمان، لا كلام. الرئاسة كانت ملحقة. رئاسة الحكومة كانت احجية رجراجة. وضعت بيضها كله في السلة السعودية، فيما الكفة الايرانية مرجحة للشيعة والمقاومة.
في الزمن السوري، كانت دمشق هي المرجعية الآمرة. لم تمارس سوريا الا دبلوماسية القبضة. الشعب اللبناني ذاق طعمة القبضة وعانى. بات لبنان، في ما بعد، تحت القبضة الايرانية عبر الطائفة الشيعية السياسية، وتحت القبض السعودية، عبر الطائفة السنية، وتحت الرعاية الاميركية التي وجدت متسعاً من الفجوات لتنفيذ سياسة فك الارتباط بين لبنان والمقاومة، وبين لبنان وايران. معسكران يصطرعان، ولبنان خارج من حرب مدمرة دامت 15 عاماً. لم تترك حجراً على حجر، مع رصيد مريع من القتلى والمخطوفين والمهجرين ورصيد اثقل من الدمار والخراب والديون المتنامية بالمليارات.
تعطلت الحياة “الدستورية” مراراً بحجة الميثاقية. لبنان بلا حكومات مراراً. لبنان بلا رئاسة لعامين. اخيراً، تمكن الجنرال عون من اقتحام بعبدا، بجواز ملكية موقعة من سعد الحريري ومن سمير جعجع وحسن نصرالله ووليد جنبلاط. وحده بري، خرج عن الاجماع، ربما لمعرفته الحدسية، بأن مدرسة عون بحاجة إلى استاذ واحد لا غير، والآخرون تلامذة.
وحصل ما حصل. صار لبنان يتقدم في العمر، ويتراجع في الانجاز. وكان من قبل، سيئاً جداً، لأنه كان يسير خطوة إلى الوراء، ثم خطوتين إلى الخلف. مع الجنرال عون، بدأت المسيرة قفزاً في الهواء. النص يخذله، فيستعين بالصهر، الذي مترس في كل مفاصل الدولة تقريباً، مع حفظ ما تبقى لمن بقي على قيد الحياة السياسية. نبيه بري متراسه عالٍ وعاصٍ ولا يجتازه الجنرال، والصهر باسيل. انما، كانت الفجوة تكبر. عون مكبل بالحلفاء الذين ارتكبوا انتخابه. مكبل بسعد الحريري من جهة، بجعجع من أخرى، بحزب الله كذلك ولا يتجرأ على بري… عهد يتعكز على قفزات في الفراغ، وفشل يشترك الجميع، من دون استثناء في انجازه. هذا الخراب من صنعهم جميعاً، بلا استثناء أحد. أخيراً، حاول عون تجربة “عون او لا أحد”، فوجد نفسه وحيداً وبأجنحة متكسرة.
كان لبنان يتفوق طائفياً وينهار وطناً واقتصاداً ومالاً ومكانة. قرع الافلاس الابواب ودخلها. تخلًع الاقتصاد. ذابت ودائع اللبنانيين في المصارف. سباق محموم بين الفقر والعوز والجوع. لبنان يسير بسرعة ضوئية إلى الكارثة. أشفق العالم علينا بعد فضيحة انفجار المرفأ… لم يهتز لهم جفن. كأن ما حصل في المرفأ هو حادث سير… تخلَ إلى حدود عدم التصديق. هستيريا طائفية سياسية مقابل التياع وقتلى ودمار وتشرد ومآس وبكاء وعويل.
كأن الطغمة لا تزال في شرنقتها. يحسبون ما معهم وما مع غيرهم. يفتون فتاوٍ سياسية لاستعادة الحضور. قبضوا على القضاء وتم اخصاؤه بالكامل. اين الرجل يا اشباه الرجال. ولا ملف دخل ورأى ضوء الحقيقة. إنسَ. كيف يمكن لمثل هؤلاء أن يستمروا في السلطة. كان من المتوقع أن يتم تكنيسهم ورميهم في قمامة الشوارع… حصل العكس. تفرق عشاق الحرية والكرامة والرغيف والوطن. غلبت الأقلية المتمرسة بالسطو على المناسبات … بسرعة استعادوا الحضور، ولكن من دون نصاب.
نصاب الدولة مفقود. لا تحزنوا كثيراً. هم ما زالوا موجودين. باسيل يتحضر للانقضاض الأخير. الجنرال يتحضر لتسليم الرئاسة إلى الوريث. ذلك صعب جداً. يعني أن الفراغ في بعبدا سيكون البديل الدائم. سعد الحريري يطوف برئاسته من دون رئاسة ومن دون وزراء. الثنائي الشيعي، كأنه يقول: ” ما خصني”. إلى آخره… لا نريد أن نعيد الكلام المهين الذي يستحقونه.
قلنا في البداية، ماضي لبنان لا يموت. وحده مستقبله ميت. فلنستعد للجنازة إذاً، يتقدمها هؤلاء أنفسهم لتقبل التهاني.
لذا: الله يرحمنا.