يعشق اللبنانيون الانقسام، حتى لو كانوا ضمناً متفقين… ولو بالإضطرار!
انهم مع الوحدة الوطنية.. لكن هذه الوحدة سرعان ما تتشقق وقد تنفجر اذا طرح موضوع العلاقة مع “الغير”، سواء أكان هذا الغير عربياً، فلسطينيا او سوريا على وجه التخصيص، او سعوديا وعراقيا ويمنيا او جزائريا الخ..
وهم من العرب، احيانا، ومن الغرب احيانا أخرى، فينيقيين احيانا، كنعانيين وسرياناً احيانا، بل يصلون إلى حد الإدعاء أنهم من كوكب آخر… فإذا ما ضغطت عليهم الحاجة ارتدوا الكوفية والعقال وفاخروا بأنهم اول العرب وأعرقهم نسباً وأعظمهم اصالة.
يصعب إجماعهم، ويسهل تقسيمهم، طائفياً ومذهبياً، فالولاء للطائفة، او لزعيم الطائفة، يباعد بينهم الى شفا الاقتتال.
وكثيراً ما أخذتهم السياسة إلى العنصرية، فأنكروا اصولهم الثابتة واندفعوا يتنصلون من اصولهم ليدّعوا الانتماء إلى الغرب.
حتى على الاستقلال انقسموا، وظل بعضهم على الولاء للاستعمار الفرنسي..
أما في موضوع سوريا، وهي جارهم العربي الوحيد، فكثيرا ما عادوها او استعدوها، وكثيرا ما استعان بها بعضهم ضد بعضهم الآخر، فلما خرجت قواتها العسكرية او أُخرجت، صارت العلاقة معها من المحرمات، وصارت زيارة دمشق موضع اتهام ومساءلة!
فأما مع فلسطين التي كان بعض أهل الاقطاع اللبناني يملك مساحات فيها (بساتين او بيارات)، فقد استقبلوا نكبتها بالإشفاق، وتعاملوا مع الذين جاءوا الى لبنان “لاجئين” بحسب القواعد اللبنانية مرعية الاجراء! وزعوا اللاجئين حسب أديانهم: المسلمون في المناطق ذات الاغلبية السنية، والمسيحيون في المناطق ذات الاغلبية المسيحية: صبرا وشاتيلا مقابل ضبية، مار الياس في بيروت مقابل الثكنة الفرنسية في بعلبك..
على امتداد ثلاثين سنة، تقريباً، لم يكن الفلسطينيون في لبنان يمثلون مشكلة: كانت وكالة الغوث تنفق على المخيمات، بمدارسها والعيادات.. والشباب يد عاملة رخيصة (فلا ضمان ولا تأمين ولا مرجع للشكوى..)
وحتى مع تفجر الثورة الفلسطينية، في رد مباشر على هزيمة الجيوش العربية في 5 حزيران 1967، لم يكن للبنان مشكلة مع الفلسطينيين.. بل اننا كنا تتباهى بأبطال الكفاح المسلح الذين يهاجمون العدو الاسرائيلي في الارض المحتلة..
كثيرٌ منا هنا لا بد يتذكرون تشييع جثمان اول شهيد لبناني في الثورة الفلسطينية، خليل الجمل: لقد تناوب اللبنانيون على حمل نعشه من نقطة المصنع، على الحدود مع سوريا، إلى بيروت: في مجدل عنجر كما في عاليه، وفي الكحالة كما في الحازمية، وفي الضاحية كما في الطريق الجديدة.. وعند الصلاة على جثمانه في المسجد العمري تراصف الشيخ بيار الجميل مع الرئيس الشهيد رشيد كرامي مع الزعيم كمال جنبلاط مع الرئيس صبري حماده وكامل الاسعد مع نواب الارمن وسائر ممثلي الطوائف والمذاهب في لبنان.
تعاظمت الثورة الفلسطينية، التي رأى فيها كثير من الفلسطينيين وسائر العرب، لبنانيين بالأساس وسوريين ومصريين ومغاربة وعراقيين ويمنيين الخ، مدخلاً للتعويض عن الهزيمة بالثورة لتحرير فلسطين.. وهكذا تقاطر المئات من المتطوعين العرب لينضموا إلى الثورة واعتماد الكفاح المسلح طريقاً للعودة إلى فلسطين بالانتصار على العدو الاسرائيلي.
وتوزع المناصرون بين الاردن ولبنان، مع غض النظر من السلطات الحاكمة، مراعاة للتأييد الجارف لشعار تحرير فلسطين بالمقاومة المسلحة، خصوصاً وان شعب فلسطين لم يكن يعرف الطائفية، كما أن قضية الثورة جمعت كل المؤمنين بها، سواء أسلموا بقيادة خريج الاخوان المسلمين ياسر عرفات، ام بقيادة جورج حبش الارثوذكسي اصلاً مؤسس حركة القوميين العرب، ام بنايف حواتمه الذي انشق عن الشعبية ليؤسس الجبهة الديمقراطية.
غمرت الحماسة للثورة الفلسطينية الارض العربية جميعاً، وتزاحم القادة العرب على التقرب منها إلى حد احتضانها رغبة في تعويض الهزيمة، كما مع جمال عبد الناصر، وإما “لخنقها”، كما جرى في الاردن وإما “لشرائها” والاستعانة بها على عبد الناصر، كما جرى في بعض انحاء الخليج.
*****
كانت طلائع من الثوار الفلسطينيين قد بدأت تتحرك وتنشط لمهاجمة قوات العدو الاسرائيلي، واساساً وانطلاقاً من الاراضي الأردنية، اساساً.
ثم تمدد الكفاح المسلح إلى لبنان، خصوصاً المناطق الجنوبية المحاذية للأرض الفلسطينية، وسط حماسة عربية بالغة..
انقسم اللبنانيون، كعادتهم عند المفترقات السياسية.. وكالعادة اتخذ الانقسام شكلاً طائفياً. وبلغ الانقسام الحكومة فأصابها الشلل.. وكان لا بد من وسيط مؤهل فتدخل الرئيس جمال عبد الناصر ودعا الطرفين: الحكومة اللبنانية برئاسة الشهيد الراحل رشيد كرامي، وقائد الجيش الراحل العماد اميل البستاني، للتلاقي في القاهرة تحت رعايته، مع قائد الثورة الفلسطينية ياسر عرفات.
سمح الاتفاق لقوات منظمة التحرير، او الفدائيين كما كانوا يعرفون آنذاك، بالانطلاق نحو فلسطين ومواجهة قوات العدو الاسرائيلي فيها، من بعض نقاط الارتكاز في جنوبي لبنان، لا سيما في منطقة العرقوب (شبعا وجوارها) والهبارية التي كانت في العام 1969 من أهم المواقع التي تواجد فيها المقاتلون الفلسطينيون وخاصة بعد اتفاقية القاهرة وكانت بمثابة مقر قيادة العرقوب ومنطلق العمل المقاوم ضد العدو الإسرائيلي.
كان التفاهم أن يبقى هذا الاتفاق سرياً..
لكن الخلافات السياسية اللبنانية كان لا بد أن تفيد من هذا الاتفاق السري لتأجيج الصراع الداخلي، وهكذا وجد من سرب نصه إلى جريدة “النهار” التي نشرته على مدى الصفحة الأولى، محققة نصراً صحافياً كبيراً، بغض النظر عن نتائج النشر على الشعب المنقسم حول موضوع الكفاح الفلسطيني المسلح وانطلاقه من لبنان.
*****
لم يعد الخلاف الآن، وبعد انطفاء الثورة الفلسطينية: هل كان ذلك الاتفاق سليماً ومراعياً لظروف لبنان ام لا؟
الوقت متأخر جداً للحكم، بمفعول رجعي، على هذا الاتفاق، الذي افترض البعض، آنذاك، انه يفسح في المجال للعمل الفدائي أن يطلق بعض متطوعيه من مناطق محددة في جنوب لبنان، هي بالتكوين، متعاطفة مع القضية المقدسة إلى حد تبرع بعض الاهالي لان يكون ادلاء، بوصفهم يعرفون الجانب الفلسطيني من الحدود معرفة أهله..
..وكان كثيرون يراهنون على عودة مصر (ومعها سوريا) إلى الميدان، في القريب العاجل، وبالتالي فان حرباً عربية سوف تحسم الصراع المفتوح..
لكن الامور اتخذت سياقاً آخر: انفجر الوضع في الاردن في ايلول الاسود 1970، وفي اواخر الشهر ذاته رحل جمال عبد الناصر… وأطلت على العرب دنيا جديدة غير تلك التي صنعها الانجاز او الطموح الثوري.
من هنا يجوز القول أن النقاش، اليوم، حول اتفاق القاهرة، متأخر جداً، وهو يأتي من خارج السياق: فلا اللوم يفيد ولا التأييد.. لان الحكم على أي قرار يكون في زمنه ومع وعي بالظروف والمعطيات المحيطة، والا كنا كمن يعذب ذاته على أمر مضى وانقضى، بخيره وشره، وعسى أن نفيد مما كان في ماضينا في مستقبلنا الذي يحمل مشكلات قد تكون أثقل وطأة على حاضرنا مما كان في ايام زمان التي مضت ولن تعود!
كلمة القيت في ندوة بعنوان “مفهوم السيادة الوطنية من اتفاق القاهرة الى اتفاق الطائف” في جامعة الروح القدس – الكسليك في 5 كانون الاول 2017