بسبب التدجين يكاد كل فرد في لبنان يصاب بعقدة ذنب وعقدة ارتياب. كل واحد يخجل من نفسه بسبب انحيازه الطائفي غير المبرر، والذي يبطن كرها للآخر من غير طائفة. يصاب بالارتياب لأنه يعرف أن الآخر أيضا يستبطن نفس المشاعر ضده. كل طائفة قبيلة موسعة. كل قبيلة جاهزة للقتال في حرب دائمة. الخجل من الذات يقود الى هدنات ويجعل الحرب متقطعة. يخجل من نفسه حين يتذكر بلده. يعقد اتفاقا مع الآخر. كل اتفاق آني. يندم بعد وقت على الاتفاق رغم أنه صار جزءاً من الدستور. يختل مزاجه عند كل اختلال يهدد الدولة. يصاب بالندم ثم بالخرف. يهذي بعشوائية. تزول السياسة. تُصاب الديمقراطية وتلغي نفسها أمام الطائفية.
مع حكم مافيا المال والدين، خسر اللبناني أمواله. فاتكل على المغتربين. تتوق نفسه للهجرة. لا يبقى في البلد إلا الموتورين والقعدة العاجزين والأطفال والشيوخ من كبار السن. في الداخل تنهشه الطبقة الحاكمة. تأكل كل لحمه نيئاً. تعتبره فريسة. يتصرف العامي كأن لا حول له ولا قوة.
قلق دائم. خوف على المصير. خوف من الذات. رعب من شريكه في الوطن. كاليهود الذين أنتجوا عباقرة قبل دولة إسرائيل، في دولتهم صاروا غفلة أغبياء. تملكتهم عقدة ذنب، وتملكهم الارتياب. يرون في كل ما يدور في العالم مؤامرة عليهم. الشعبان أحرقا أنفسهم مرات عديدة في التاريخ. محرقة النازيين ضد اليهود ينتجها اللبنانيون مرة أخرى ضد أنفسهم الآن. لبنان مرتع للأغبياء، حكاما ومحكومين، وهؤلاء أنفسهم يكسبون ذكاءً مفرطاً في الهجرة خارج لبنان. كالصهاينة في إسرائيل، لا يعرف اللبنانيون كيف يشكلون حكومة في بلدهم. غفلة في بلدهم، وأذكياء في الخارج.
تملأ التناقضات روح اللبنانيين. ينادون الدولة كي تساعدهم في الأزمات، وما أكثرها، لكنهم يفعلون كل شيء لتدمير الدولة. محاولة الشهابية لبناء المؤسسات قضي عليها. وصموها بالأمن والمخابراتية (المكتب الثاني) فدمروها. دولة اعمار ما دمرته الحرب الأهلية دمروها بتهمة الفساد. هم دائما يكرهون الأجهزة الأمنية والفساد. لكل جهاز طائفة تحميه أو زعامة من نوع ما؛ لكل فساد طائفة تحميه، ولا نحاسب أحداً. نسبة كبيرة من اللبنانيين يعملون لدى الدولة بمختلف أجهزتها البيروقراطية والأمنية، ومع ذلك لا دولة وطنية قائمة ولا انتماء للدولة. الانتماء للطائفة أولاً. الانتماء للدولة عمل ديمقراطي. الانتماء الطائفي لا طوعي ولا اختياري. يفضل اللبنانيون أن يُغتصبوا سياسياً على أن يكونوا أحرارا. الحرية لديهم ليست ما يتعلق بالتفكير والموقف الفردي المستقل بل النقيض تماماً. كل واحد ينضوي وراء كبش من أكباش الطوائف. الجميع يتحدثون وكأنهم ضد الطائفية، لكن الطائفية معشعشة حتى النخاع في كل واحد يعتبر أن الطائفية متفشية في الغير. لو كان لبنان كما يقول اللبنانيون عن أنفسهم وعن “اخوانهم” اللبنانيين الآخرين، لكان لبنان بلداً علمانيا. لديهم كمية كبيرة من الذكاء. يتحوّل ذلك الى نوع من التذاكي والشطارة والتلاعب على الآخرين وعلى الدولة. الفرق كبير بين الشطارة والذكاء. يريدون دولة دون أن يدفعوا الثمن بالجد والعمل والانضباط والإنتاج. يعتمدون على المساعدات أي التسوّل من الغير. بلغوا من الغنج والدلال الى احد اعتبار أن العالم يحتاج إليهم. ستركض الدول الأخرى، العربية وغير العربية، لمساعدتهم لحل مشاكلهم. يجيدون إثارة المشاكل لأنفسهم وللآخرين. يعتبرون أن واجب الآخرين مساعدتهم بل إنقاذهم. هو “لبنان الرسالة” في نظرهم. فلماذا يتصرفون بعدم مسؤولية بانتظار أن يتحمل العالم المسؤولية عنهم؟ ليس الداخل، إرادة اللبنانيين، هو الذي يقرر المصير. المخططات الدولية، علاقات ومفاوضات الدول الكبرى والإقليمية، هي التي تقرر. اليسار يقول أن الامبريالية، الشر الأكبر، والشيطان الموجود دائما، هي التي تقرر المصير. هناك إله الخير الذي يمثله اللبنانيون، وهناك في المقابل إله الشر الذي يتمثل في المخططات الخارجية. لا يمر حديث تلفزيوني عن النظام الدولي إلا وتذكر فيه المخططات الدولية. كلنا يعرف عن المخططات الدولية أكثر مما نعرف عن لبنان. بارعون في تحليل العالم وفاشلون في إدراك لبنان. كيف يكون هناك استقلال والوعي كله موجه الى الخارج. يملي الخارج إرادته لأن اللبنانيين، شاؤوا أم أبوا، اختاروا أن لا تكون لهم إرادة. تركيز الوعي على الخارج أفقدهم الإرادة الذاتية طوعا. يفوتهم دائما أن البلد، أي بلد، مهما كان صغيرا، إذا اتحد وكان مجتمعه متماسكا، وكانت السياسة الداخلية هي التي توحد، لن تستطيع أي قوة خارجية مهما عظمت من السيطرة عليه.!!! اختار اللبنانيون الاستسلام لسياسات الخارج طوعا. لذلك تشكّل سفارات الدول الكبرى والإقليمية مراكز قوى. ويتصرف سفراؤها وكأنهم رؤوساء آخرون للجمهورية أو مجلس النواب أو الحكومة، أو لجهاز من أجهزة الدولة، خاصة الأمنية منها والاجتماعية، والتي تأخذ شكل المنظمات غير الحكومية. السياسة في الأصل عمل مشرّف، وهي إدارة شؤون المجتمع. لا مهنة أشرف من إدارة شؤون المجتمع. ففيها منفعة للناس. أما السياسة في لبنان، فهي لعبة صراع على السلطة. مجرد صراع وألاعيب وتحالفات داخلية لا تخضع لمبدأ أخلاقي أو هدف اجتماعي. هي نوع من التشاطر وإبراز مفاتن المعنيين أمام سفراء يعملون كمراقبين، يستعرضون جحافل اللبنانيين وقيمهم وقدرتهم على خدمة مستعرضيهم بكفاءة. على صخور نهر الكلب سجّل الفاتحون العابرون والمقيمون انتصاراتهم. هناك هيكل العبادة لدى اللبنانيين. صار هذا الهيكل وعقيدته راسخا في النفوس، فكان اللبنانيون أدوات صيد لاصطياد الفرائس من اللبنانيين.
لم يعد للحقيقة مكان في نفوس اللبنانيين. كل الحقائق افتراضية وهمية. حدودها تتسرّب من خارج لبنان. إذا لم يعد للحقيقة مكان فالخداع هو الأساس. هو في العمق لعبة يجيدها الناس، خاصة أبناء الطبقات العليا. لبنان موجود في مركز اللافنت (شرقي المتوسط). واللافنتية لقب للخداع والسمسرة. براعة اللبنانيين انصبت في اللافنتية. ويسمون ذلك برنامج خدمات. كل ذلك على حساب العمل والإنتاج. حتى الأحزاب تتصرف خارج برامجها وعقيدتها، إذا كان لها عقيدة أو برنامج عمل، لصالح السمسرة للخارج على حساب الشعب اللبناني، طبعا. وعندما ترفع ألوية الوطنية والمبادىء الأخلاقية يكون ذلك تظاهراً خادعاً للناس، وفي الحقيقة تسويفا للسمسرة الخارجية. حتى الكهرباء تستورد من الخارج. العملة الوطنية أوراق تطبع وتنخفض قيمتها مقارنة مع عملة خارجية. نوهم أنفسنا أن لدينا عملة وطنية للتبادل بين منتجات لبنانية. هي في الحقيقة للتبادل مع عملات الخارج في سوق يسمونها سوداء. ويسيطر على هذا التبادل بضعة أفراد ومؤسسات تديرهم.
التناقض بين الطبقة العليا والطبقات الدنيا واضح جلي للعيان. الفساد يعشعش في الطبقة العليا. الطبقات الدنيا لا يتاح لها ذلك. هي أقرب للحالة التعاونية. تدفعها الحالة الطائفية للتشبه بالطبقة العليا من طائفتها. فائدة الطائفة للطبقة العليا هي أنها الايديولوجيا التي تجمع الأغنياء والفقراء في فئة واحدة وتلغي تناقضاتهم. يعرف الفقراء أن أكباش الطوائف ومن حولهم يستغلون أبناء طائفتهم دون كلل أو استيحاء، ودون رحمة أو تعاطف؛ أفراد الطبقة العليا في كل طائفة يريدون عامتهم أن يكونوا متسولين عندهم، ورعايا يعتنون هم بهم. أتباع يخضعون لهم. فما أن حدثت ثورة 17 تشرين 2019، حتى اتحدت الطبقة العليا للطوائف. هرّبت أموالها الى الخارج وأحدثت أزمة معيشية لم يشهدها البلد في تاريخه. بالنسبة للطبقة العليا، لا يجوز للفقراء أن يخرجوا من قيودهم الطائفية وتبعيتهم لأكباش الطائفة. إذا حاولوا ذلك، فعليهم تقع العقوبة. هي في هذه الحالة أزمة مريعة، انهيار مالي، سقوط الى الهاوية. بلد لا من يديره أو يسوسه، وحكومة لا تُشكّل. فراغ لا في الحكومة فقط بل في جيوب الناس وبطونهم. سكوت مطبق عن الفساد، وكأنه اختفى. نشرات الأخبار المسائية أوراق نعوة. كأن البلد أمام مراسم الدفن. فضيحة وراء فضيحة. أزمة تتلوها أزمة عن فقدان مواد أساسية للمعيشة. همُّ اللبنانيين اليومي كيف يتسولون ودائعهم في البنوك بأسعار متدنية مقابل الدولار، وتأمين الوقود للسيارات والمنازل، والبحث عن الرغيف المختفي من الأسواق، والأدوية المحتكرة في المخازن بانتظار الإفراج عنها وعن المواد الأخرى بعد رفع ما يُسمى الدعم. ودائع الناس فعلا مصادرة بما ينافي القانون والدستور. مسموح للناس أن يجوعوا، ممنوع على المصارف أن تفلس. شعب برمته يُعاقب. يجب أن يبقى خاضعا وإلا الفقر بالمصادرة، والجوع بالإفقار، وانهيار نفسي غير مسبوق. يشعر كل لبناني (ما عدا الأكباش وحاشيتهم) أنه مكسور من الداخل.
نجحوا في تدجين الناس. أهانوهم، وأذلوهم، واقتلعوا كرامتهم من نفوسهم. يردون إليهم بعض الكرامة بانتصار افتراضي في فلسطين. شعور فارغ بالنصر. نفس فارغة تمتلئ نصرا كاذباً. ترى الخراب، بل الهزيمة في فلسطين، وتحسب ذلك انتصارا. ترى المرفأ في بيروت مدمرا، وعدداً كبيرا من الإصابات، وجوعا يداهم أحشاءك، وتحسب أنك تنتصر في معركة إصلاح وهمية. يبدو أن لكل حدث في المنطقة وظيفة في تدجين الناس وإخضاعهم منذ ثورة 2011. وتُعاقب المجتمعات العربية، واحدة تلو الأخرى، لأنها خرجت عن انتظام رسم لها. في لبنان كان مسموحا أن ينقسم لبنان بين 14 و8 أذار. أما أن ينقسموا طبقيا بعد 17 تشرين بين فقراء وأغنياء، وأن يجعلوا لأنفسهم هوية تعلو فوق الهويات الطائفية، وأن يجتمعوا للمرة الأولى حول تضامنهم ووحدة دولتهم، ويرفعوا العلم اللبناني ليكون تعبيرا وحدويا للمرة الأولى في تاريخ لبنان، فهذا ممنوع ويجب أن يُعاقبوا عليه. حصلت العقوبة بما لم يشهده التاريخ سابقا. السادية التي مورست وما تزال هي الأشد في قسوتها. بلد لا يتسوّل المساعدات الإنسانية وحسب، بل كل فرد يتسوّل ماله المودع ( إذا كان لديه حساب مصرفي)، وقد صار من الشياكة في العقود الأخيرة أن يكون لدى المرء دفتر شيكات، كما اللباس على الموضة والتباهي بماركة الثياب التي يرتدونها.
الناس على شاكلة ملوكهم كما يقال. ليسوا كذلك. ثاروا في 17 تشرين 2019، أو حاولوا ذلك. الطبقة ذاتها بجميع أطرافها دمرت ذلك. حولت الأمر وكأنه مجرد صراع بين الأكباش واختلاف على عدد الوزراء. التناقض الرئيسي هو بين عامة الناس وقلة تشكّل الطبقة السياسية وتقبض على رؤوس العباد، مستخدمة جميع الوسائل الايديولوجية لربط الناس بها. فعلت ذلك ليس بالطائفية وحدها، بل أيضاً بنزع الأخلاق وتحويل كل فرد الى واحد من الشطار والزعبرجية الموالين لأكباشهم. الأزمة هي أن اللبنانيين، عامتهم، لا يجدون وسيلة لتدمير الطبقة الحاكمة. دون ذلك، سنبقى في لبنان منسيين في بلدنا.
ينشر بالتزامن مع موقع الفضل شلق