الحرب في أوكرانيا، استعادة لتاريخ مخضب بالقتل والدم والدمار. الحرب لا تموت، بل تُمِيت. دائماً تحضر الاسباب وتستدعى لإشعال الفتيل وممارسة القتل، بكل ما ملكت الايدي، في هذا المعسكر او ذاك. الحقيقة التي يجب أن تظل ظاهرة وقابلة للمعاينة، هي أن العدو هنا، او هناك أو هنالك. أميركا، هي الدولة الأولى في صناعة العدو. كما تصنع الاسلحة وكما تملأ الاسواق العالمية بمنتوجاتها وتدفقات توظيفاتها، كذلك تنتج العدو وتصوّب عليه، حتى ولو لم يكن موجوداً من قبل. اكرر: “حتى ولو لم يكن موجوداً من قبل”.
في مباراة فكرية-عسكرية حول الظروف التي تستدعي اللجوء إلى الحرب، مناظرة بين اميركي وأوروبي. الأوروبي ينتظر أن يظهر العدو بحيث يشكل تهديداً. الحرب عندها شرعية. أما الاميركي، فهو يعتبر أن العدو موجود هنا ربما. ولا يخاطر في التأجيل. أي، حتى ولو لم يظهر العدو، لا بد من الاحتراز. الحرب الاميركية دائماً استباقية وفي كل الاحيان مدمرة.
إذاً، لا تكن غبياً. أنت بحاجة في هذا العالم إلى أن تبحث بشكل دائم، عن العدو. إبحث عنه وتأكد من انك ستجده. المفكرون العسكريون، يحدّدون ملامح وسمات وافعال ونوايا الآخرين المنافسين او “الاصدقاء”. (لا صداقات في السياسات الدولية، هناك مصالح فقط ومسحة من العطاء فقط). ولكي تتأكد من أنك على حق في اكتشافك للعدو، عليك أن تكيل بمكيالين: واحد لك ومن معك، وآخر لغيرك. هذا الغير عدو محتمل.
ولأن العدو حاضر ومنتشر دائماً، فان اللجوء إلى تصنيع العنف وتكثيفه وضخه إلى سوق الاستهلاك الحربي، ليس عليه سوى أن يحد الساحة أو الساحات، حيث يصار إلى إيقاظ المشكلات وتعظيمها ووضع العصي في مشاريع تفاهمات وتسويات. ولا بأس ولا خير ابداً من دوس أقدس المبادئ، الحياة، وأعظم المخلوقات، الانسان، وارقى القيم، الحرية… الحرب، تُعظّم الاخطار، تصنعها احيانا، ثم، تطفئها بعد اشغال العدو وارغامه على طاعة اولي الامر: السلطات المعبرة عن جموح الشركات العملاقة، والعمارات المالية العملاقة.. الحرب دائماً رابحة. لا قيمة للدماء والاخلاق والمبادئ. حجة الأقوى هي الفضلى.
لا تستطيع دولة مثل اميركا أن تنام مطمئنة إلى سلام دائم.
اميركا اليوم، شبيهة بغيلان الامبراطوريات والدول الصناعية، في اوروبا، التي اجتاحت ثلثي الأرض، واستعمرتها وسرقتها ونهبت ثرواتها والحقتها بسلاسل العبودية: الديون التي لا طاقة لدول كسيحة ومدمرة على سدادها. اقسى ما تصاب به امبريالية عسكرية- مالية، أن لا تجد عدواً. ويروى أن غورباتشوف قال عن الولايات المتحدة، بعدما انتزعت انياب الاتحاد السوفياتي المسوسة: ” سنقدم لكم اسوأ خدمة: سنحرمكم من العدو”.
اذا، لا بد من عدو. وفي التفاتة إلى واقعنا العربي في خلال مئـة عام من الزمن، يمكن وضع ترسيمة مذهلة للعداوات العربية العربية، لانفجار المجتمعات، طوائف ومذاهب وعقائد وتبعيات وقدرات وخرافات، ادت كلها إلى تآكل هذه الجغرافيا، وذرها ركاماً من الكيانات الهزيلة التي تحتاج إلى سند خارجي لحراستها مقابل ضريبة سموحة وسخية. لقد كنا أفدح الاعداء لبعضنا، وتغاضينا، انظمة واحزاباً وسلطات و… عن مقاومة الاستيطان الصهيوني لفلسطين. وراهنا، ذابت العروبة. انتحرت القوميات بيديها. المقاومة افلست، وازدهرت حروب الآخرين عندنا. ونكاد نصل إلى تحالف حميم بين من كان يظن انهم اعداء. العدو الاسرائيلي، مرشح لقيادة تحالف اقليمي، متكىء دولياً، على دولة الارهاب العالمي: الولايات المتحدة الاميركية. وهكذا، نرى أن كلام نعوم تشومسكي صحيح بالتمام والكمال: “الحرب هي السياسة الخارجية للولايات المتحدة الأميركية”.
ولا بد من ادانة الديموقراطيات الغربية، ذات الطموح إلى القطبية. الأنظمة الديموقراطية هذه، لديها براءة ذمة اخلاقية كاذبة. لشن حرب او اللجوء إلى توغل عسكري لإزاحة حكم دكتاتوري غير موال للغرب. هذه كبرى الكبائر الغربية. ادعاء وكذب، لأن الديموقراطيات، هي الحارسة للممالك والامارات والحكومات الملكية والاميرية على طول القارات وعرضها. أي أن الديموقراطيات تتغاضى عن دكتاتوريات مستبدة ومتخلفة، بشرط أن تقبل بإملاءات الغرب وخدمة مصالحه.
لا، الحروب لا تشن ابداً. لنصرة الخير ومكافحة الشر… كذابون.
الحروب أقوى الآلهة. وحدها تستطيع تصديع الجغرافيا، وتفتيت الجماعات، وتعميم القتل، ولا قيمة فيها للناس الذين يُقتلون وليسوا مذنبين. القتلة يقتلون من لا يعرفونهم، أوكرانيا ضحية سافرة. هي الجغرافيا التي تهيأت سياسياً، لتكون ميدان الصراع، بين اميركا ومن معها حتماً، وبين روسيا طبعاً، ومن معها من القلة التي تدعي الحياد. لا حياد في منطق الانحياز.
انها حرب عالمية، بأسلحة جديدة وقاتلة ومدمرة، وبسلاح ماضٍ يصيب الكرة الارضية بارتجاجات صعبة العلاج. الاقتصاد والمال، جبهتان مفتوحتان عالمياً… والحرب التي ستنتهي على زغل، ستعلم عباقرة الاجرام الرأسمالي، كيف يستعدون لحروب كبرى قريباً. أوكرانيا هي الفاتحة لتشكل جيوسياسي جديد كل ما قبله مات.
هذه ليس نبوءة ابداً. السلام وهم جميل. موعد لا يحضر. فالحرب، مذ وجدت البشرية، وهي تكتب التاريخ. التاريخ البشري مؤسس على الغزو وعلى ابتكار العنف وممارسته وتطويره. ما نجهله هو متى وكيف وأين؟ ما نعرفه، هو أن الحرب رئة ضرورية للاقتصاد ورأس المال، وتلبية لغرائز اصيلة في الانسان: التسلط، التحكم، الثروة، الإخضاع. كل ما ترسمه الفلسفات عن فضائل الاخلاق، ترهات واقعية. التاريخ كله معمد بالدماء ومكرَّس بالمجازر، ومؤيد بالأحقاد، ومدفوع بشهوات التسلط والغلبة.
السلام خرافة. لكن التاريخ مبرمج طبعاً. لأن السياسة التي سادت على مر العصور، كانت تتغذى بالعنف، وتعلي قيمتها من خلال ادعائها انها تقوم برسالة ما. القرن العشرون، خزانة رهيبة من العنف التراجيدي، الذي يتسع دائماً لعشرات ملايين القتلى، وبهدف الفوز بسلام كاذب. العالم محكوم دائماً بالأقوياء. والويل للضعفاء. والمؤسف، أن المؤرخين، يصوبون نظرتهم إلى الحروب. التي تشكل الدافع الأول للتقدم والحضارة… تماماً كالديانات التي جاءت لتزرع السلام. فانبتت الفتن والفتوحات والحروب الاخوية الفظيعة.
إن وقفة متأملة للكرة الارضية، في مؤسسة جغرافية، تشعرك عن جد، وبكل تأكيد، انها كانت مِراراً. ضحية ارتكاب الانسان لحروب.
فالحروب جحيم الضعفاء، وجنة الأقوياء. فالويل للمهزومين.
السلام هدف مستحيل. جميل أن تتغنى بالسلام، وكم هو مؤلم أن تكون انت مسالماً. الدليل، اصطفاف الكرة الارضية بدولها وتحالفها وتنازعها. هي منخرطة في الحرب الاوكرانية إما سلاحاً (وانواعه كثيرة ، مدمرة ، وقاتلة وتهدد بالمجاعات التي تصيب الدول الفقيرة بالجوع والدول الغنية بالندرة) وأما موقفا. لبنان نموذج وهو منقسم ومتفسخ ومتخندق. لذا هو كذلك، حكوميا وطائفيا. منا من هو روسي، ومنا من هو اميركي، أولاً، وأوكراني بالمعية وأوروبي بالتحضر الزائف.
السلام قوة ناعمة هادئة مثالية، ولكنه مستحيل، منذ البدء. من اراد أن يخيم عليه السلام. عليه أن يحمي هذا السلام بقوة السلاح. مفهوم؟
طبعاً! الأحداث تفصح عن استعمال العنف، وعن تلوث الدول “المتحضرة” و”المتطورة” و”الانسانية” والرافعة للوائح قوانين الحقوق والواجبات، والمؤسسات الدولية الاممية التي تهتم بدعم السلام ومنع الحرب. كيف كل هذه الترسانة “النظيفة” كلاميا. تصطف في الخنادق، وتدعم القاتل ولا تشفق على المقتول.
ضحايا هذه الحروب، بيئة جغرافية وشعبية لم تتوقف خلال مئة عام، عن تعميم رائحة البارود من المحيط إلى الخليج. كل الحروب العربية، كانت بزعامات ومواقف وسياسات همجية وبربرية. انتهت الحرب الكونية، واستمرت حروب الاستعمار والاخضاع. هذه البلاد عندنا ولدت بالسكين وليس بالشعوب. فرقوا العالم العربي وتركوا فيه الغاما مستيقظة ومستعدة، وحرسوه بسلطات “عربية اللغة”، غربية الهوى… كم حرباً خيضت ضد العرب. تذكروا: الجزائر، العراق. سوريا، لبنان، مصر، السودان، بنزرت، الخليج العربي… وأفدحها نكبة فلسطين. أن اسرائيل عار اخلاقي، ومع ذلك فهي تاج لرؤوس الزعامات الغربية على مر عصر من مئة عام. شعب يطرد من ارضه الابدية، إلى المنافي والمخيمات، بدعم من مجموعة عنصرية ابادية، مرفوضة من دول الغرب، ومفروضة على العرب.
كثيرون يمرون مروراً عابراً بقرننا العربي. القرن العربي، كان ساحة معركة واستنزاف وتآمر وتغلغل وإخضاع. كثيرة هي الكيانات التي اصطفت باستمرار، إلى جانب قوى العدوان والغزو. مرة مع بريطانيا وفرنسا، وأخيراً تحت العباءة الاميركية والاقدام الصهيونية… لا عرب في الماضي ولا عرب اليوم. غداً، وهو عصر الأفول على أحسن تقدير.
لا، لم ينته الاستعمار. ازالة آثار الاستعمار في الخمسينيات والستينيات والسبعينيات، كان شعاراً لدول كثيرة، رأت في تنافس القطبين، الاميركي والسوفياتي، مناسبة مربحة: تحقيق الاستقلال. حروب الاستقلال أنجبت دولا ضعيفة. مدينة منهارة، اقتصادها ينوء، زراعتها تبور، حداثتها هو ما تلمه من افكار غربية رأسمالية، او ماركسية.
هذا الزمان الضئيل التفاؤل، انتهى إلى سجود الاكثرية له. وهذه الاكثرية، اكثرت من قمعها لشعوبها. العالم العربي حاز منذ الخمسينيات حتى اليوم، على أفدح النتائج. حضر الربيع العربي، فقتلته اميركا وفرنسا والغرب، وسفكته نزعات اسلامية بائدة، ومؤيدة ومرحومة من دول التراث العلماني الغربي المصادر، ومن امارات وممالك وحكومات، تنام في الفراش الاميركي، تحت طائلة الطلاق السياسي. وهذا امر يصدع الممالك والامارات.
وآخر ما ابتدعته الآلة الجهنمية الغربية، محاربة الارهاب بإرهاب فتاك. والغريب، انه بعد 11 ايلول، اختارت الولايات المتحدة اعداءها وعفت عن اعدقائها في دول الخليج. دمرت افغانستان. وافغانستان ضحية الاسلام السياسي المتخلف والبدائي، السوفيات وهم على فراش النزاع الأخير، والولايات المتحدة الاميركية.
من جرائم هذا الغرب، الحرب المجنونة والكاذبة والقحبة والفاجرة، على العراق ليس بحجة الدكتاتورية وتعميم الديموقراطية، بل بكذبة غير مسبوقة ووقحة: اسلحة الدمار الشامل و.و.و. دُمر العراق وتُرك ينزف طوائف ومذاهب واعراق.
كل ما له علاقة بالقومية قتلوه او مات ميتة فشله.
لا. لم ينته الاستعمار. الدولار، يستعمر الاقتصاد والسياسات. حرب اميركا الاقتصادية، ورد بوتين بالروبل- هزَّ العالم كله. السؤال: ما العمل.. هل انتهى زمن دكتاتورية الدولار ومن يدور في فلكه، في ملكوت اليورو. ماذا لو دخل الين، عالم الدولار… جوعوا يا شعوب الأرض. الحرب ستنال من رغيفكم ودوائكم وهوائكم.
هذا العالم جحيم..
إذا عدنا ربع قرن إلى الوراء، نجد أننا عشنا اول تحول جيوسياسي، بسقوط الاتحاد السوفياتي. قلعة من القلاع العقائدية، سقطت بالديموقراطية الاميركية والغربية المزينة بأسواق فائقة الانجاب للبضائع والسلع، وكأن الماركسية جوع، والرأسمالية تخمة… كذب. طبعاً، الكب لغة الاقوياء. يكذبون على الملأ. والدليل، أن الفقراء يزدادون. الجماعات تطال أكثر من ملياري بشري. ازدادت الهوة بين الدول المنتجة والثرية وبين الدول الفقيرة. اكثرية الدول الفقيرة مدينة. تتحكم بها مؤسسات الرصد المالي: البنك الدولي، صندوق النقد الدولي، ندرة الدولار الخ..
الجوع والفقر والتراجع والأمراض والعوز والتخلف، لا تظهرها الشاشات ابداً. الإعلام عبد مطيع لقوى الرأسمال العالمي. الفلسفات والعقائد لم تعد قادرة على منافسة الهجوم الذي تشنه وسائل التواصل ومحطات الارسال والتلفزيونات. المصدر واحد. الصورة مبرمجة. العالم منحاز. واسوأ ما فيه، انهم يقسمونه عنوة إلى عالم متقدم (أي رأسمالي) وعالم متأخر، أي كما هو اليوم ضحية الاجتياحات الرأسمالية في العالم.
لا مستقبل للبشرية من دون حروب. من دون ظلم، من دون إفقار، من دون تسلط، من دون مصادرة، من دون إلحاق… الأمرة الكونية كانت في خلال السنة الماضية، بيد الغرب. فعاث احتلالاً وإخضاعاً وسجناً في قفص الديون… الدَّينْ سلاح إخضاع مهين. الدَّينْ ليس مساعدة بل هو قيد اقتصادي وأمرة من الخارج. لبنان، مرشح أن يكون في قفص العقوبات التي تسمى مساعدات. على أن الفقراء والفقراء قليلاً والجيل الجديد، سيدفع ذلك من قوته ويومه وعرق غده… كذلك هي الدول التي لم يعد لها حظ الظهور في شاشات الغرب، المختصة، بتوزيع شهادات حسن السلوك على عبيدها، وشهادات الارهاب والعنف واللاديموقراطية على من يتمرد على أوامرها.
اتهمت شعوب كثيرة بالبربرية. وهذا صحيح. لكن البربرية الرأسمالية، أشنع ما عرفته البشرية. هذا العالم المتعب اليوم، هو صناعة اميركية وغربية.
حصتنا نحن، نحن في ما مضى، وما حضر، وربما ما سيأتي، هو الخسارة.