خلال أيام معدودة خرجت علينا أصوات من الشرق والغرب تجمع على أن العالم يعيش مرحلة لا يجد فيها ما يجمع عليه. تبالغ هذه الأصوات. هناك إجماع متفرق على قضايا ومسائل شتى. هناك مثلا أصوات في الشرق كما في الغرب وفي الجنوب كما في الشمال تجمع على أن العالم يعيش أجواء حرب باردة. حروب عديدة وليست حربا واحدة. حروب أشد من حرب القرن العشرين وبين أطراف أكثر عددًا. من هذه الحروب الحرب الباردة بين الصين والولايات المتحدة. بدأ الإجماع يتكون متدرجًا حول تحليلات تنبأت بأن العلاقات بين الولايات المتحدة والصين مقبلة على توترات مآلاتها أن تصب في حرب باردة. لم تكن الشواهد كثيرة ولكن ما أعلن منها عن وجوده حفّز على هذا الاستنتاج، وإن تأخر المحللون. تأخروا لأن الطرفين الأمريكي والصيني استطاعا على مدى ثلاثين عاما أن يقنعا الكثيرين بأن التعاون بينهما وبخاصة في قطاعات التجارة وتبادل الاستثمار تطور مفتوح النهاية ولصالح الطرفين. اقتنعوا أن هذا التعاون وما حققه للدولتين لم يسبق أن عرفته سجلات تاريخ العلاقات بين الدول. بفضله، وأقصد بفضل هذا التعاون بين البلدين، تباطأ معدل انحدار القوة الأمريكية الأعظم وإن استمرت تنحدر، وبفضله تسارع صعود الصين من دولة على طريق النمو إلى قوة اقتصادية عظمى. بمعنى آخر بدت العلاقة بين الدولتين وقد اكتست رداء الاعتماد المتبادل، رداء لم يثبت يوما في تجارب قريبة الشبه أنه يمكن أن يقود الطرفين نحو خصام أو شقاق في أجل منظور، ولدينا في تجربة العلاقة الصينية الروسية الراهنة خير شاهد على ذلك.
لم يميز العام الماضي إنجاز مهم على صعيد العلاقات بين الدول الأوروبية، وهذا في حد ذاته محل إجماع آخر بين كبار المحللين وأكثرهم دراية بتفاصيل العلاقات. على العكس استمرت بارزة ومتزايدة علامات الضعف الأوروبي تجاه أمريكا وروسيا والصين. خذ الصين مثلا. نذكر للرئيس إيمانويل ماكرون أنه حذّر من عواقب استمرار الحال في تطور العلاقات الأوروبية الصينية على ما هو عليه، فقال “لقد انتهت مرحلة السذاجة الأوروبية”. صحيح أن هذا التصريح لم يحدث ما أحدثه تصريحه الذي شبه فيه الحلف الأطلسي بالعقل الميت، إلا أنه كان تعبيرًا صادقًا وصريحًا عن نوع الضعف الذي تدهورت إليه الجماعة الأوروبية في علاقتها بالصين. لم يضع ما أراد قوله في كلمات دبلوماسية كتلك التي صدرت عن السيدة آنجيلا ميركل عندما قالت “يجب علينا كأوروبيين أن نرى الصين منافسًا وشريكًا في الوقت نفسه”. لاحظ معي أن الدولتين الأقوى نفوذا في أوروبا فشلتا في الحد من توسع النفوذ الصيني إلى الحد الذي شجع الصين على التمييز بين دول أوروبية وأخرى عند الدعوة لعقد مؤتمرات صينية أوروبية. عقدت مثلا مؤتمرات لم يحضر فيها مع الصين إلا دول شرق ووسط أوروبا، بينما أفردت لدول غرب أوروبا وبخاصة ألمانيا وفرنسا مرتبة أخرى من اللقاءات، وكانت في غالبيتها ثنائية.
لم يبتعد ماكرون أو ميركيل عن الحقيقة في تصريحاتهما عن حال أوروبا، وأظن أنه يتوجب علينا الاعتراف بأن عام 2019 لم يكن أفضل أعوام الاتحاد الأوروبي. ففي هذا العام انشغلت المفوضية بترتيبات إقامة قيادة جديدة للمفوضية. هذا الانشغال بالإضافة إلى مفاوضات بريكسيت وترتيبات الاستعداد لفوز المحافظين البريطانيين وصدمة خروج بريطانيا التي أصابت معنويات عواصم عديدة في شمال ووسط أوروبا ومناورات الرئيس الأمريكي وحروبه التجارية الصغيرة، كلها وغيرها من التطورات الصعبة والمعقدة استهلكت معظم طاقة المفوضية الأوروبية. يكتمل الاعتراف بتفاقم الضعف الأوروبي وأسباب ذلك عندما نضع في اعتبارنا واقع الارتباك السائد في الحياة الحزبية الألمانية والتغير النسبي في حجم وفاعلية نفوذ السيدة انجيلا في الداخل الألماني. دخل كذلك في اعتبارنا أنه في العام نفسه لم تكن أحوال فرنسا الداخلية أفضل كثيرا من أحوال ألمانيا أو إيطاليا. كل هذا وغيره لا يقلل من أهمية العنصر الروسي، وأقصد استمرار الضغط الروسي على كل المواقع الرخوة في الوحدة الأوروبية، والتدخل المتصاعد من جانب روسيا في الشؤون الداخلية لدول أوروبا وبخاصة دورها في تشجيع القوى القومية المتطرفة المتصيدة أخطاء النظام الديموقراطي الحاكم في مختلف دول أوروبا الغربية.
إمبراطوريتان على طريق التكوين، إمبراطورية روسية تتكون للمرة الثالثة أو الرابعة خارج الحدود المعروفة لروسيا، وإمبراطورية صينية تتكون لأول مرة خارج الحدود الثقافية والتاريخية للصين التي نعرفها. لاحظنا كيف أن أساليب التوسع الإمبراطوري في الحالتين مختلفة، كيف اختلفت الحالتان عن حالات تكوين الإمبراطوريات الغربية في كثير من الأمور. أعرف مثلا ولا أظن أنني مخطئ، أعرف أن لا بكين ولا موسكو تحوزان معلومات ووثائق دقيقة ومدققة أو تخضع لتدقيق واف، وهي معلومات ووثائق عن أساليب حياة قبائل وأمم وشعوب في منطقة الشرق الأوسط كتلك التي توفرت لدى وزارة المستعمرات البريطانية وما يشبهها في هولنده وبلجيكا وفرنسا.
بمعنى آخر، يبدو أن قادة التوسع الإمبراطوري في كل من بكين وموسكو وفي بعثاتهما في ليبيا وبلدان الخليج لا يعرفون على وجه الدقة ما كانت تعرفه لندن بالاتقان الممكن عن أهم القبائل وشيوخها والصف الثاني من رجالاتها. التقيت مؤخرا خبراء من روسيا والصين يجيدون التحدث بلهجة عربية أو أخرى ولم أجد بينهم من يوازي في سعة الاطلاع وعمق المعايشة أسماء لشخصيات ساهمت في توسيع رقعة إمبراطوريات الغرب في الشرق الأوسط. أجازف فأتصور شرقًا أوسط وقد انحسرت عنه “حضارته” الغربية وزحفت نحوه متآلفة في عصر ومتنافسة في عصر آخر تقاليد سلافية و”حضارة” آسيوية. ألم تأت هذه العبارة الأخيرة على لسان متحدث صيني كبير المقام في مؤتمر الأمن الذي انعقدت دورته السنوية قبل أيام في مدينة ميونيخ الألمانية؟
اليوم ألسنا شهودا على إمبراطورية غربية أخرى تنحسر. أمريكا تنسحب من الشرق الأوسط ومن وسط آسيا، تترك الشرق الأوسط لروسيا ووسط آسيا تتركه للصين. الهند، في رأيي، غير مؤهلة الآن لدور إمبراطوري، وبحسب إجماع في الغرب وفي آسيا لن تتأهل خلال العقود المنظورة.
أتصور أن يكون عنوان وثيقة الدورة الحالية لمؤتمر ميونيخ قد خضع قبل إقراره لمداولات مكثفة. صحيح أنه عبر عن حقيقة واقعة وهي أن العالم يدخل ولأول مرة منذ الحروب الصليبية حالة “عالم بدون غرب”، إلا أن قليلين بين علماء السياسة والحضارة من الذين تعودنا على متابعة اجتهاداتهم أعطوا لهذه المرحلة القادمة من الصراعات الدولية ما تستحق من رهبة وتقدير في دراساتهم وتصوراتهم. مثلا لا أظن أن أحدا منهم ربط ربطًا وثيقًا بين انحسار المكانة وانهيار الاستقرار (أو ما يمكن أن أطلق عليه استقرار الفوضى في الشرق الأوسط) وبين ما ألمح به قادة أوروبيون عن انحسار تيار الحضارة الغربية أو عن “سقوط الغرب”، تلميحات رفضها السيد مايك بومبيو في خطابه بميونيخ، وأظن أنه بهذا الرفض الساذج كما قدمه لم يقنع أحدا من الحاضرين.
بصفتي إنسانا يعيش في وطن عربي، أسأل سؤالا من أسئلة كثيرة جديرة فعلا بأن نتداول فيها وفي إجاباتها. أسأل إن كنا جاهزين لمواجهة مشاق وكوارث التخلي عن تقاليد وأفكار الغرب وفوقها مشاق ومصاعب اعتناق مسيرة آسيوية أو سلافية بتقاليد وأفكار مختلفة، أم أن لدينا، نحن العرب، البديل الناجع. بديل نحن صنعناه وصقلناه، ثم خبأناه لهكذا أيام.
تنشر بالتزامن مع جريدة الشروق