في ساعة الشدة والخشية من التداعيات الناشئة عن صراع الكبار من الذين يحتكرون القرار ويملكون القدرات بالتحكم في مصائر الآخرين، تولَد عادة أفكار من شأنها صون إستقرار الرعية وإبقاء أوطان أو حكومات في دائرة السلامة. مثل هذه الشدة وتلك الخشية ترجمها المرجع الديني للطائفة المارونية في لبنان بطرح الحياد فكرة برسم التسويق السياسي والشعبي ومن دون إستباق الطرح بمشاورات في شأن موجبات الفكرة، ولا حتى الإستئناس بآراء المرجعيات التي تمثِّل سائر الطوائف اللبنانية. وعندما لم يحصل هذا التشاور فليس من باب الإستهانة بوجهات نظر الآخرين، ذلك أن الفكرة لن تبصر النور إذا هم إستبقوها رفضاً في الحد الأقصى وعدم ترحيب كاف في الحد الأدنى لمجرد التحادث معهم في شأنها، وإنما لأن فكرة الحياد هي من نوع الأفكار التي تأخذ طريقها إلى التفاعل في حال جاء الإعلان عنها مفاجئاً وبما يتسبب في صدمة تفرز الكثير من التفاعلات. وقد يجوز الإفتراض إذاً أن صاحب الفكرة البطريرك مار بشارة بطرس الراعي أخذ بالخيار الصادم على أن تُفتح كل نوافذ المناقشة وإبداء وجهات النظر وتسجيل المواقف.
ومن الطبيعي أن يكون هنالك بعض الحذر والكثير من التحفظات من جانب مرجعيات في الطوائف اللبنانية قد تصل إلى درجة “الفيتو” من نوع “الفيتو” الأميركي على أي مشروع قرار أممي ينصف الشعب الفلسطيني ومن نوع “الفيتو” البوتيني على أي مشروع قرار يحقق حلاً متوازناً للأزمة السورية، وكل مرجع من وجهة نظر لا تشبه أُخرى. وهذا الحذر وتلك التحفظات منطلقة من شعور ظالم لصاحب الفكرة البطريرك الراعي، بأنه يطرح صيغة الحياد لدواع متصلة بخشية متشعبة المشاعر في الطيف اللبناني المسيحي. ولكن صاحب الفكرة إفترض وهو المستوعب تمام الإستيعاب للخصوصية اللبنانية ولشغف اللبنانيين من النخبة السياسية والفكرية وكذلك أهل المال والتجارة وبينهم بسطاء الناس الأكثر تعبداً في كل الطوائف، أن البدء بالتشاور مع هذا أو ذاك أو أولئك سيحوِّل الفكرة إلى وقود في مرجل من المزايدات تقلل من وهج الفكرة وإيجابيتها.. هذا إذا لم تئدها في رحاب بكركي أو في المهد الديماني. وهو من أجْل ذلك أطلق الفكرة التي كان رد الفعل عليها متفاوتاً إنما عموماً الترحيب بها والتمني بأن تأخذ طريقها إلى التنفيذ.
ساعة الشدة التي قاربت على تهديد الصيغة اللبنانية وبما من شأنه حدوث تقسيم عشوائي للبنان تكون فيه الغلبة للطرف الأقوى من حيث إمتلاك السلاح والتي جعلت رأس الكنيسة المارونية يطرح صيغة الحياد على الملأ ومن خلال عظة صلاة، جعلتْني أستحضر من الذاكرة ومن أوراق مرجأ نشرها إلى حين أطراف ذكريات وأحاديث حول فكرة الحياد الإيجابي المرتبطة عربياً بالرئيس (الراحل) جمال عبد الناصر. ففي أكثر من لقاء في السبعينات مع كل من محمد حسنين هيكل رئيس تحرير صحيفة “الأهرام” في القاهرة ورجل الدولة السوداني المتميز الرئيس محمد أحمد محجوب في الخرطوم، إستفسرتُ منهما بصفة كون كل منهما قريباً من عبدالناصر ومناقشاً معه عن بعض المستعصي عليَّ كصحافي إستيعابه من خطوات وقرارات ذات بعد دولي إتخذها عبدالناصر. ومن هذه الخطوات ما يتعلق بسياسة الحياد الإيجابي التي طرحها كأحد عناوين سياسة مصر آملاً وساعياً إلى أن تكون بنداً في الجانب السياسي من البيانات والقرارات التي تصدر عن الإجتماعات العربية وبالذات مؤتمرات القمة التي كانت بدأت تنشط بعد إحياء الفكرة التي كانت طويت لبضع سنوات ثم حدثت العودة إليها بوتيرة أكثر حيوية.
من جملة ما سمعتُه من الأستاذ هيكل أن اللقاء الذي تم منتصف فبراير/شباط 1955 بين عبدالناصر ورئيس الحكومة الهندية البانديت نهرو جرى على متن باخرة نيلية بالقرب من القناطر الخيرية ودام بضع ساعات أسس ملامح “الحياد الإيجابي” ذلك أن رؤى الإثنين كانت متقاربة، ومن أجْل ذلك شقَّت الحركة طريقها إلى سياسة حكومات كثيرة في دول العالم الثالث، وبات رموز هذه الحركة (عبدالناصر، نهرو، تيتو) حاضرين في “أجندة” قطبيْ الحرب الباردة سادة البيت الأبيض في واشنطن و “ترويكا” الكرملين في موسكو.
يطول الحديث حول ما قدَّمه الحياد الإيجابي وما إستعصى عليه إنجازه قبل أن يرحل أقطابه بالتدرج ومن دون توريث ممنهج للفكرة التي ما أحوج العالم إليها في الزمن الحالي حيث هنالك ملامح حرب باردة قطباها هذه المرة أميركا ترامب والصين ودواعيها كورونية بإصرار لمآرب إنتخابية خلافاً لدواعي جولات سابقة من الحرب الباردة الأميركية-السوفياتية.
كذلك تطول إنطباعات الرئيس محمد محجوب عن محطة الحياد الإيجابي في المشروع الناصري. وما سمعته يقوله خلال لقاء به إنه إذا كان مؤتمر دول عدم الإنحياز في باندونغ ربيع عام 1955 حقق الشهرة التي كان يتطلع إليها عبدالناصر بحيث لا تنحصر زعامته بمصر والإطلالة على العالم كزعيم عربي محايد بين الشرق السوفياتي والغرب الأميركي، فإن صفقة السلاح التشيكي التي أبرمها مباشرة بعد ذلك المؤتمر أفقدتْه حياديته، حيث أنه بات في حيز لا يتحمله الغرب في المشروع السوفياتي. وعدم التحمل هذا أورث حساسيات لم يلبث خليفته الرئيس أنور السادات أن حاول إزالتها بمواقف إتخذها من الكرملين لجهة إلغاء معاهدة أبرمها مع الإتحاد السوفياتي ثم إخراج الخبراء العاملين في الجيش المصري. في الحالتيْن إنتكست فكرة الحياد مصرياً.
ما يجوز قوله إن البديل للحياد، ومن تحصيل الحاصل أن يكون إيجابياً، هو التوازن في العلاقات وعدم الإرتهان لطيف خارج على حساب الوطن. مثل هذا الحياد يميل إلى إنتهاجه الحكم الجديد في السودان ويبذل النجم السياسي الأحدث في العراق رئيس الحكومة مصطفى الكاظمي كثير السعي من أجل الأخذ به. كما أن مثل هذا الحياد يطمح أيضاً إليه الليبيون بعد أن تزول الغمة الأردوغانية عنهم ويشمل الزوال محاولة التلاعب بتونس.
وأما الغمة الإيرانية التي تمعن كرباً بلبنان وباليمن فإن خير فرصة للنظام الثوري الإيراني لطيّ الصفحة متيسرة الآن، وبحيث يختبر كما أردوغان محاسن الحياد وعدم التدخل في أحوال آخرين… وبذلك يتفادى كل منهما غضب الله على صاحب السلطان المسلم عندما يؤذي الغير ولا يسوس الرعية على نحو ما في الكتاب. والله العليم والسميع والبصير.