أعود راضيا إلى قناعة تولدت في شيخوختي المبكرة عندما اكتشفت في أطفالنا مصدرا للحكمة وتفسيرا أو تبريرا لبعض تصرفاتنا.
***
خطر لي ذات يوم من أيام الجمعة، يوم اجتماع عائلتي، أن أهدي “ليلى” ثاني أكبر أولاد الأحفاد وقد بلغت العاشرة من عمرها أن أهديها شيئا مفيدا وبخاصة بعد أن سمعت عن اهتمامها المبكر ببعض الملخصات عن مسرحيات شهيرة في الأدب العالمي بل وبالتمثيل على خشبة المسرح في المدرسة دور أو آخر منها. الشئ المفيد كهدية مني كان كراسة أنيقة .
***
شرحت لليلى، وأنا أقدمها لها سعيدا بما سمعته عنها، أن الكراسة، كما تعرفت على مثيلتها صغيرا ورجعت لها كبيرا، مخصصة لكتابة يومياتنا، يومأ بيوم. نصحتها، وهي تقبلني شاكرة، أن تعتبر يومياتها مستودع كل أسرارها مطمئنة إلى أن أحدا في البيت لن يقرأها في غيابها. لم أنس، على كل حال، أن أطلب من أمها، التي هي حفيدتي، أن تطمئن ابنتها إلى أنها لن تسمح لأحد الاطلاع على اليوميات.
***
مرت أيام، لعلها شهرا أو أكثر، قبل أن أعود إلى “ليلى” في زيارة الجمعة “المقررة”، لأسألها عن حصيلة تجربة علاقتها بيومياتها. أجابت بسرعة وبثقة فيما تنوي أن تقول. قالت ما معناه “يا جدي، فكرت طويلا مساء كل يوم قبل أن أمسك القلم عن ماذا حدث لي خلال النهار يستحق مني الكتابة عنه. تعرف يا جدي، أجد نفسي في حيرة. لم يحدث خلال كل تلك الأيام ما يفرحني فيستحق أن أكتبه الآن من أجل أن أقرأه وأنا في سن متقدمة. أريد أن أتذكر فقط عندما أكبر كل ما أبهجني وأدخل السعادة إلى قلبي خلال حياتي. وبالتأكيد لا أريد أن يكون هناك كراسة أو يوميات تذكرني بأنني لم أكن سعيدة وأنا طفلة أو مراهقة أو امرأة كما كان يجب أن أكون”.
***
غادرت الطفلة مع أمها وشقيقتها ووالدها البيت مخلفة وراءها نقاشا حادا اشتعل في داخلي. هل معنى ما قالته “ليلى” أنني عندما كتبت عن شوارع وميادين ومدن في حياتي وعن تجاربي فيها أو معها لم أكتب إلا عن كل ما أبهجني وتفاديت أكثر ما أزعجني أو ضايقني. عدت إلى ما كتبت لأتأكد وقضيت بقية ليلتي أناقش هذا الأمر بعد أن وجدت نفسي مذنبا. المؤكد أنني لم أخترع ما يبهج فما سطرته ذاكرتي سجلته. المؤكد أيضا أن فيما كتبت ونشرت لم يكن للتعاسة أو التشاؤم نصيب يذكر. يعني كنت بالفعل سعيدا وفرحا أو على هذا النحو سجلت ذكرياتي هذه المرحلة من حياتي ورفضت، وأقصد الذاكرة، تسجيل أي شعور بغضب أو ضيق أو تعاسة.
***
بمعنى آخر، هل يمكن أن يكون لطبيعتنا البشرية، إن صح التعبير، دور في محاولات جعل التقدم في العمر مرحلة مريحة ومبهجة، أو على الأقل، مرحلة يزيد فيها عناصر البهجة على عناصر البيئة الحاضنة وقتذاك من حروب وظلم اجتماعي ودولي وخيبات أمل، كنا في انتظاره. غريب أن معظم من عرفت من زملاء العمر المتقدم راحوا يثمنون هذا المعني. أغلبهم تساءل إن كان هذا المعنى وراء رغبتنا في أن نقضي وقتا أطول مع أطفالنا، وإن على انفراد في الحدائق أو نصحبهم إلى دور السينما التي تبث لصغار السن أفلاما بالرسومات والمغامرات .
***
أتساءل أنا نفسي إن كنت فيما كتبت عن مدن تركت أثرا في حياتي أن أهمل عن عمد الإشارة إلى واشنطن أو وارسو أو بلغراد أو كلكتا أو كراتشي أو نيروبي أو فالبارايسو رغم أنني زرتها جميعا أو عملت في بعضها. هذه مدن لا أضمر لها غير الخير ولكنها بالتأكيد لم تترك في سجل ذكرياتي ما يستحق الاقتباس دليلا على الأثر الذي خلفته في نفسي. بل أن مدنا أخرى لم يرد ذكرها فيما كتبت عن المدن التي تركت أثرا، وبدقة أعمق، المدن التي أثرت حياتي، هذه سجلتها ذكرياتي ولم يتسع لها عمود انطباعات الشروق.
***
غالبا ما سجلت ذاكرتي بكائي ليل نهار وأنا طفل رضيع أو أكبر وإمرأة أو أخرى من نساء، في بيت جدتي في مرجوش أو في العمارة التي كنا نقيم فيها بحي الديوان بالتناوب مع بيت العائلة، يمشين بي ذهابا وإيابا حتى يغلبني النوم فأنام. سجلتها الذاكرة ولكنها لا تذكرني بها إلا لماما على عكس ما تفعل مع ما سجلته عن فترات إقامتي في مشربية غرفة “القعاد” في بيت جدتي. فعلت هذا أو تفعله حتى الآن ربما لأن التجربة كانت ممتعة لي، كانت بمثابة نزهة يومية بين عشرات المارة وعلى أصوات الدق على النحاس في دكاكين صنع أوعية الطعام وعلى منظر المصلين بجلاليبهم الناصعة البياض وهم خارجين من الجامع المواجه للبيت.
***
أتصور أن لمزاج الطفل وبهجته دورا في ترتيب أولويات ما تسجله الذكريات وتحفظ منه ما يستحق أن يحفظ ليعود الإنسان بين الحين والآخر خلال سنوات تقدمه في العمر إلى ما ارتاح إليه وأحبه وهو طفل. نوع من الحنين إلى أيام الأحضان والرعاية والحب المتناهي.
تنشر بالتزامن مع جريدة الشروق