هل يكتب لنا «الغير» تاريخنا الجديد بدمائنا، أم ترانا نمحو تاريخنا الذي لم نعرف كيف نكتبه ثم لم نعرف كيف نصونه، بدمائنا؟
إن الخرائط الجديدة لمنطقتنا بالدول المهدَّدة في وحدة كياناتها أو في وجودها ذاته تُرسم بدمائنا ومن خارج إرادتنا ومصالحنا، وعلى حساب هويتنا الواحدة، في الغالب الأعم.
إن قوى جديدة، من خارج التوقع، قد اقتحمت علينا حياتنا بمرتكزاتها الهشة والمصطنعة بالطلب وعلى مقاس أصحاب المصالح، فزعزعت القائم منها من دون أن تهتم بالبديل، فإذا نحن في مهب عاصفة دموية قد تتمكن من اقتلاع الأوضاع القائمة ثم تتركنا نهباً لرياح التغيير الذي لا نستطيع منعه ولا نحن قادرون على إعادة صياغة ما كنا عليه بما يناسب طموحاتنا إلى غدٍ أفضل.
انتبهنا، فجأة، إلى أن كياناتنا التي كنا نعترض على اصطناعها تحت حكم الأجنبي قد غدت بالاضطرار، والتعود، أوطاننا التي لا بد من حمايتها حتى لا يأخذنا التيه إلى الحروب الأهلية.
فأحلام الوحدة العربية تكسّرت تحت جنازير دبابات الانقلابات العسكرية، وأحزاب التقدم في اتجاه الوحدة والحرية والاشتراكية دخلت لعبة السلطة بالعسكر، ومن خارج مبادئها، فلم يتبقّ منها غير الشعارات ذات الرنين العاطفي الآخذ إلى الحلم، بينما الحكم للسلطان المفرد مقابل خيار محدد أمامها: الاستسلام عبر الالتحاق الدوني بسلطة تحكم بشعارها بعد اغتيال دلالات الشعار وأهداف الذين آمنوا به فناضلوا لتحقيقه ثم انتهوا خدماً للسلطان يبرر طغيانه على مدار الساعة، أو معتقلين تغلق عليهم أبواب السجون ثم لا تفتح إلا لإخراجهم أمواتاً بلا مشيّعين.
أما أحزاب النضال الوطني من أجل استقلال البلاد وتحريرها من المستعمر الأجنبي، فقد انتهت إلى قائد فرد له حق القرار في مختلف الشؤون، سياسياً واقتصادياً، تربوياً وثقافياً، حزبياً ونقابياً: هو الكل في واحد، رأيه هو القرار، وليس على الشعب الذي بات تحت قيادته «رعية» إلا السمع والطاعة، وإلا.. فالعصا لمن عصى! وبنتيجة المطاف انتهى الأمر إلى العسكر الذي أطاع طويلاً قبل أن يكتشف أن القائد قد شاخ وأنه بات أضعف من أن يقرر، وأن الأقوى إلى جانبه ـ امرأة كان أو قائد حرس أو مدير مخابرات ـ قد بات صاحب القرار الذي قد يحمل بصمة القائد حرصاً على «الشرعية».
كانت السلطة أرض صراع مفتوح، للخارج أساساً، ثم للأقرب إلى الخارج من قوى الداخل.
وإذا كان «الكاريكاتور» يغلب على عملية «انتخاب» رئيس للدولة في لبنان، مرة كل ست سنوات، ثم مرة كل تسع سنوات أيام عهد «الوصاية السورية» على الوطن الصغير، فإن عملية تناوب الحزب والجيش منفردين، ثم متحدين تحت راية الحزب، ثم عبر «القائد الفرد» للجيش والحزب، وإن هو موَّه التفرد بجبهة وطنية تضم «هياكل» الأحزاب التي أُفرغت من مضمون شعاراتها ومن جماهير مناصريها، قد باتت هي القاعدة في كل من سوريا والعراق واليمن ـ جنوباً وشمالاً قبل أن تستعيد اليمن وحدة دولتها في العام 1994، وعبر الحرب.
أما في الدول العربية التي تولى «الميدان» التغيير فيها بطوفان الجماهير التي أقامت فيه حتى تمّ خلع المقيم في القصر، فإن عملية التغيير قد اصطدمت بواقع أن الجماهير بلا رأس، بلا قيادة وتنظيم، وبالتالي بلا خطة عمل تواجه بها ما بعد إسقاط الطغيان، إذا ما هي نجحت في إسقاطه.
الشعوب العربية، الآن، في التيه: دولها التي ظلت مشاريع دول، يختصرها في الغالب والأعم «الحاكم» الفرد الذي جاء بانقلاب عسكري، أو بتسوية سياسية يفرضها «الخارج» عربياً كان أو خارجياً، أو ـ في الغالب عربياً ـ أجنبياً في «صفقة» لتسوية مشتركة.
ليس من بلد عربي يعرف يقيناً مَن يحكمه، وإلى متى سيستمر هذا الحكم، ومَن سيكون البديل، في حال تم التوافق من فوق رأس شعبه، على هذا البديل.
وإذا ما اعتمدنا لبنان نموذجاً لاستطعنا اكتشاف بعض ركائز الواقع السياسي العربي، في هذه اللحظة:
1 ـ مع استقلال الدولة في أواخر العام 1943، ونتيجة غلبة النفوذ البريطاني فيه على نفوذ الانتداب الفرنسي بعد هزيمة فرنسا أمام الاجتياح الألماني، تم انتخاب الشيخ بشاره الخوري ـ في اللحظة الأخيرة ـ بديلاً من «المرشح الطبيعي» إلى ما قبل شهور قليلة إميل إده لموقع رئيس الجمهورية للبنان المستقل.
وكان لا بد من موافقة سوريا التي كانت القوات الفرنسية ما تزال فيها، تواجه الهبّات الجماهيرية والانتفاضات، ولم تخرج منها إلا مع نهاية الحرب العالمية الثانية.
وفي حين تعرضت سوريا لمجموعة من الانقلابات العسكرية في أعقاب الهزيمة العربية أمام إقامة الكيان الإسرائيلي بالقوة على أرض فلسطين، فإن «الدولة» الوليدة في لبنان ظلت ثابتة، بل وتبدّى أن لها رعاية دولية استثنائية.
بعد «ثورة 23 يوليو» 1952 في مصر، ثم تقدمها إلى دور عربي كانت مغيَّبة عنه، والحفاوة الاستثنائية التي حظي بها شعبياً، باتت مصر جمال عبد الناصر قوة مؤثرة في لبنان، خصوصاً وقد نشأت شراكة ضمنية حول هذا البلد الصغير، بينها وبين الولايات المتحدة التي باتت قيادة الغرب جميعاً ومصدر القرار.
ولقد استمرت هذه الشراكة في القرار حتى رحيل عبد الناصر واعتماد أنور السادات سياسة مغايرة وصلت في أعقاب حرب أكتوبر ـ تشرين ـ مع العدو الإسرائيلي إلى الانسحاب الكامل من موقع التأثير والشراكة في القرار في ما يتصل بالمشرق العربي عموماً، بل وبالعرب عموماً، مع استثناء يتعلق بدولتي الجوار: ليبيا والسودان، ولأسباب تتصل بأمنها القومي.
في هذه الأثناء تقدمت سوريا حافظ الأسد، الذي كان الحاكم الفعلي من خلف ستار قبل أن يتولى الحكم ـ رسمياً، وبمختلف مواقع القيادة فيه مدنياً وعسكرياً، لتكون «الشريك» العربي للغرب بالقيادة الأميركية، مع حفظ حصة معينة للمملكة العربية السعودية.
في أواسط السبعينيات انفجر لبنان، ذو الدولة الأضعف من طوائفه، بالحرب الأهلية، التي كان بديهياً أن تنزلق إليها المقاومة الفلسطينية التي كانت قد استقرت، بقياداتها وكتلتها العسكرية المهمة، في لبنان، محدثة خللاً في التوازنات الهشة لهذا الوطن الصغير بطوائفه العديدة. وكان بديهياً أن تنخرط أطراف عربية عديدة في هذا الصراع، أولها النظام السوري ومقابله نظام صدام حسين في العراق، ودول أخرى كلٌ بحسب موقفه من هذا الطرف أو ذاك. وكان أن أقرت جامعة الدول العربية إنشاء «قوات الردع العربية» التي شكلت القوات السورية أكثريتها الساحقة… وصار الصراع عربياً ـ عربياً، وفيه ومن خلفه «الدول»، وصار لبنان ساحة صراع مفتوح تملأه الدماء. وكان ذلك أقصى ما يطمح إليه العدو الإسرائيلي، وهكذا تقدمت قواته بقيادة أرييل شارون لاحتلال جنوبه وبعض بقاعه وجبله ومعظم بيروت في أوائل حزيران 1982 مرتكبة مسلسلاً من المذابح أشهرها وأفظعها في مخيمَي صبرا وشاتيلا. وتدخلت «الدول» لإخراج قيادة المقاومة الفلسطينية ومعظم مقاتليها من لبنان.
في ظل الاحتلال الإسرائيلي انتُخب بشير الجميل رئيساً للجمهورية في ثكنة عسكرية وبحماية الدبابات، لكنه اغتيل بعد فترة وجيزة فجيء بأخيه أمين الجميل رئيساً بين مميزاته أنه لم يزُر إسرائيل، مثل أخيه، ولم يعقد اتفاقاً مباشراً معها. ولكنه تورَّط في اتفاق 17 أيار 1983 معها، بذريعة التمهيد لإخراج عسكرها، متسبباً بإيقاظ الحرب الأهلية النائمة.. معتمداً بنسبة ما على دعم من صدام حسين، لم يستمر طويلاً، بسبب طغيان النفوذ السوري وحلفائه الأقوياء داخلياً.
استدعت هذه التطورات الدراماتيكية مؤتمرات للحوار بين الأطراف المتقاتلة برعاية سورية ـ سعودية تحت المظلة الأميركية، انتهت باتفاق سياسي في مدينة الطائف السعودية تمّ التوصل إليه عبر النواب المنتخَبين قبل خمسة عشر عاماً، وكان قد توفي بعضهم «على الطريق» إليه. وهكذا صار لبنان، بالمعنى السياسي «محمية سورية»، بشراكة سعودية معلنة مثّلها رئيس الحكومة الراحل رفيق الحريري، تواصلت حتى اغتياله في 14 شباط 2005، فكانت نهاية الشراكة وانسحاب سوريا ـ سياسياً وعسكرياً ـ من لبنان.
على امتداد السنوات العشر الماضية عاش لبنان وضعاً قلقاً ومقلقاً، تفاقمت خطورته مع انفجار الحرب في سوريا وعليها وعجز الشريك الثاني، أي السعودي، عن ملء الفراغ، برغم الرعاية الأميركية المباشرة. وها هو في فراغ سياسي يمنع ـ منذ أكثر من سنة ونصف السنة ـ انتخاب رئيس جديد، ويضرب بالشلل الحياة السياسية فيه، فالمملكة المذهّبة لا تكفي وحدها لتأمين الاستقرار فيه وإدامته، لا سيما وأن إيران كانت قد تقدمت لاحتلال موقع الشريك، عملياً، بقوة نفوذها وأبرز تجلياته دعمها المفتوح لـ «حزب الله» الذي سطر صفحات مجيدة في مواجهة العدو الإسرائيلي كقوة احتلال.
في غياب مصر، ومع تدمير الدولة في العراق، ثم في ليبيا معمر القذافي وغرق سوريا في بحر دمائها، تقدمت السعودية لاحتلال الدور القيادي، بالاضطرار أكثر مما بالرغبة. لكن التجربة تدل أن المملكة المذهّبة غير مؤهلة للقيادة (أقله المنفردة) وتجربة اليمن قاطعة في دلالاتها.
ولبنان، بفراغ السلطة فيه، يفضح الفراغ العربي الشامل.
نشر هذا المقال في جريدة “السفير” بتاريخ 30 كانون الأول 2015