لبنان هو أعجب «دولة» في التاريخ. «الدولة» جمهورية بالمعنى القانوني، لكنها ممالك وإمارات ودوقيات غير مؤتلفة وغير موحدة، طبعاً، في الواقع العملي.
.. وهي «دولة» بنظام ديموقراطي برلماني في دستورها الذي لا يستذكره أهلها والمسؤولون عن حمايته إلا عند «اضطرارهم» لخرقه.. ثم انها، في واقعها، إقطاعيات طائفية ومذهبية وإن موهت ذاتها بشعارات سياسية وتنظيمات حزبية تؤكد «حقيقتها الانفصالية» واستقلال كل منها عن الأخرى إلى حد الاقتتال المفتوح،
.. وهي ـ كدولة ـ وطن لشعب واحد يغني في المناسبات الرسمية نشيده المنسي «كلنا للوطن، للعلى للعلم»، ولكن «الوطن» مغيب دائماً مع الراحل رشيد نخله، و«كلنا» سرعان ما تنفرط طوائف ومذاهب مصطرعة على «السلطة» غالباً، مقتتلة أحياناً، تخرج من «الوطن» وعليه كلما اقتضت «استقلالية قرارها» هذا الخروج.
من هنا إن «الجمهورية» ترتج، غالباً، وقد تغيب بمؤسساتها السياسية التي يغني عنها من يشغل مواقع القيادة في الطوائف والمذاهب، فتذهب «الدولة» في إجازة قد تطول.. ولا يفاجأ «المواطن» بهذا الغياب لأنها لم تعترف به يوماً، ولا هو اعتبرها «مرجعه الأخير»، حاضنته وضامنة عيشه الكريم، وإن احتاج دائماً إلى جواز سفرها ليذهب إلى أسباب حياته خارجها.
«سوء التفاهم» دائم ومستمر بين «المواطن» و«الدولة»، فهو «رعية» لطائفته دائماً، و«مواطن» في حالة التمرد على الطائفة، فإذا ما تمرد على الطائفة صار خارجاً على «الدولة»تطارده بأجهزتها حتى يعود تائباً وعبر زعامة طائفته التي تتصرف معه وبه على انها «دولته» في ائتلاف دول الطوائف المقتتلة إلى يوم القيامة. لهذه «الجمهورية» ـ كما لكل دول العالم ـ رئيس… وشرط الرئاسة ان «يخرج» المرشح من طائفته إلى «الوطن» وبهذا يمكنه ان يتقدم منه وباسمه ليكون «رئيساً» لدولته.
لكن الطائفة أبقى من الدولة، وهي المعبر إلى الرئاسة بوصفها بين حقوقها المسلم بها، دستورياً،.. فإذا ما قاربت مدة الولاية، وهي ست سنوات طويلة جداً، انتبه «الرئيس» إلى ان هذه المدة أقصر مما يحتاج «لخدمة الشعب»، وهكذا يسعى للعودة إلى حضن «الطائفة»، بل إنه قد يندفع ـ بقوة الرغبة في استكمال الانجازات الباهرة لعهده ـ إلى السعي للتمديد، إن لم يكن بولاية كاملة فبنصف ولاية، وهذا أضعف الإيمان،
.. وللرئيس في هذا المطلب حجج لا تدحض!. بينها ان «صلاحيات الرئيس الأول» قد أنقصت بينما زيدت صلاحيات الآخرين جميعاً: الرئيس الثاني (المجلس النيابي) والرئيس الثالث (الحكومة)، والوزراء أصحاب الحقائب كلهم،
الطريف ان «الرئيس الأول» لا ينتبه لمثل هذا الإخلال الخطير بحقوق طائفته إلا في السنة الأخيرة من ولايته، فيدور متظلماً على العواصم، عربية وأجنبية، يطلب لنفسه ما أعطي لغيره «بقوة الخارج»، ناسياً أو متناسياً ان «الخارج» بدوله القريبة والبعيدة والأبعد، قد جاء جميعاً «فانتخبه» رئيساً للجمهورية، مسجلاً سابقة في «التدخل الحميم» من أجل إنقاذ لبنان من خطر «الفراغ» الذي كان يحتل سدة الرئاسة (والفراغ، للمناسبة، من غير طائفة الرئيس..).
أما التصرف غير الطريف وغير اللائق فهو ان يستعدي من هو في موقع المسؤول الوحيد الذي يؤدي القسم ويمينه على «الدستور»، بعض «الدول» التي يتوهم انها تدعم التمديد أو التجديد له، على شعبه عموماً، وعلى أنبل «المواطنين» المنكورة عليهم «مواطنيتهم» تحديداً، والذين قدموا دماءهم رخيصة لتحرير إرادة «الوطن» قبل «أرضه» ولإعادة الاعتبار إلى «دولته» التي جددوا شرعية وجودها بدمائهم، وليس بالخطب التحريضية التي يفترض قارئ نصوصها انها تكسبه تأييد الخارج ودعمه فيمدد أو يجدد له الولاية ولو على حساب ما تبقى من «الدولة» و«دستورها» وسائر أسباب «الشرعية» في هذه الجمهورية الفريدة في بابها.
… هذا من دون أن ننسى أن هذا «الرئيس» مدين برئاسته لمن حفظ هذه الدولة، بنظامها الهمايوني، ولمن حمى وجودها بدماء مجاهديه وليس بالكلمات التي يعرف كاتبها أن من سيقرأها، بتعثر وبرغم التدريب الطويل، سيقصد بها استنفار «الطائفة» واستدعاء «حماتها» لحماية «موقع الرئاسة»، وكأنما الأخطار تحيق بهذا الموقع الممتاز فلا يحميه إلا التمديد للفراغ فيه.
وحرام أن يدفع لبنان ثمن وصول أي «رئيس» إلى السدة بطريقة استثنائية لا يخفف منها وصفها بأنها «لمرة واحدة» ثم يكون عليه ان يدفع ثمن مغادرته لهذا الموقع الممتاز، ولو لمرة واحدة، ومن دون توصيف «الاستثنائية»، بل عملاً بالأصول الدستورية… وهي الأصول التي تحفظ ما تبقى من هذه «الدولة» التي متى حضرت يغيب «الوطن» لتحتل الطوائف والمذاهب المشهد جميعاً… ويمتد الحوار إلى ما لا نهاية:
عشتم وعاش لبنان!
نشر هذا المقال في جريدة “السفير” بتاريخ 31 آذار 2014