تقطعت أوصال العالم. حصل شبه انهيار كامل للمنظمات الدولية خاصة التي لا تخضع للولايات المتحدة مباشرة. يدور نقاش طويل حول المعلومات الصادرة من الصين، بلد المنشأ في بداية انتشار الوباء، عن إخفاء معلومات. ساعدتها في ذلك كما يُقال منظمة الصحة العالمية. وليس الهدف هنا تحسين هذه المنظمات، بل الامتناع عن المساهمة فيها من أجل تطويعها وتدجينها. لم تقصّر الصين في ذلك. اعتبرت مؤخراً أن كل تقرير يجب أن يخضع لرقابة السلطة السياسية بعد أن يتم تحكيمه لدى الأقران العلميين. أمر يبعث على الشك حول نوايا حكومة الصين. في جميع الأحوال، تتدخل “السياسة” بشكلها الرديء في العلم. ذلك ما يعتبر محاولة لاحتواء النتائج التي يفترض أن تكون موضوعية وحيادية.
لا يمكن الدفاع عن حكومة الصين ولا عن حكومة أية دولة أخرى. كلها نيوليبرالية، ورأسمالية، واستغلالية. كلها تهين كرامة شعوبها، بما في ذلك الصين. لذلك ليس مهماً حجة أي طرف حول من هو الأحق. هم في الأصل شبكة استغلال للبشرية. تعاني هذه الشبكة خلافات داخلها. هو صراع ضمن البيت الواحد، ضمن الطبقة الرأسمالية ذاتها.
لا نعرف إذا كانت جرثومة طورت في مختبر (صناعيا) أو نمت في البرية (تلقائياً). هناك منذ شهور حملة غربية مترافقة حول انتشار الوباء على نظام التغذية في الصين، وعشق النخبة منهم لأكل أنواع من الحيوانات المتهمة بهذه الجرثومة وغيرها. هناك شيء آخر. تتكتّم الصين حول المعلومات الطبية والعلمية والوبائية الصادرة عنها. كل ذلك يضعها موضع الشك والتساؤل.
الأنكى أن جميع الحكومات تتحفّز لفتح الاقتصاد رغم عدم انتهاء هذه الموجة من فيروس الكورونا. لا نعرف نتائج ذلك على صعيد الاصابات وأرواح البشر. الحكومات لا تعرف. العلماء ما زالوا في طور البحث عن دواء وعن طعومات. لكن الحكومات لا يهمها ذلك. هي بين خيار اقتصادي يدعو لفتح الأعمال وذلك يمكن أن يؤدي الى نتائج غير معروفة على صعيد زيادة الإصابات والحالات القاتلة. الخيار الثاني استمرار الحجر الطوعي مما يمكن أن يضر بالاقتصاد ضررا أكثر مما هو فيه. الخيار إذن بين أرواح الناس والاقتصاد. في نظام يهمه الاقتصاد كأولوية من أجل الربح، لا بدّ أن ينتصر مبدأ الربح على مصير الأرواح. مالتوسية فجة ليس لديها ما يبرر الوجود البشري إلا كونه هناك لإنتاج القيمة وتكديس الثروات لدى نخبة قليلة من الرأسماليين الذين يصادرون الربح كجزء من القيمة (التي ينتجها غيرهم). ما زال أرباب السلطة في كل مكان لا يملكون ما يواجهون به الوباء سوى أن يبلغ الحد الأقصى ويتراجع تدريجياً نتيجة حدوث مناعة تلقائية لدى الناس.
على كل حال جاءت أزمة الوباء في وقت كان الاقتصاد العالمي بدأ يُظهر علامات التراجع. جاء الوباء لتحمّل أعباء الدورة الاقتصادية. تحسب النخب الحاكمة أن الوباء أدى واجبه. والآن يمكن تجاهله لتبدأ الدورة الاقتصادية الجديدة. البعض يشيرون الى بداية ارتفاع قيمة أسهم البورصات، ولا يدركون أن ذلك لا علاقة له بالاقتصاد الحقيقي. معظم المراهنات (وهي نوع من القمار) في البورصات هي حول توقعات لم تحدث بعد. أما الاقتصاد الحقيقي فهو في الأساس إنتاج تحقق ينتظر التبادل ليصير سلعاً.
الرأسمالية العالمية لا تهمها أرواح الناس. هؤلاء أساساً وفي نظر الرأسمالية كمّاً هائلاً من الناس الذين لا لزوم لهم. المسنون عبء على الاقتصاد. أعدادهم كبيرة في البلدان المتقدمة. الشباب أعدادهم كبيرة من حيث تضخم أعداد العاطلين عن العمل من الشباب. عشرات الملايين من العاطلين عن العمل قدموا طلبات للتعويضات. الصناعات والزراعات الى حد كبير لا تحتاج الى أيد عاملة كثيرة، ومعظم العمال ذوي الأجور المنخفضة هم في أسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية. كان مريحاً للنخبة الكبرى أن لا توجد هذه الجحافل، أما أن يتكفل الوباء بإماتتها فسيكون أمراً يروق للنخبة الحاكمة التي تفتح الاقتصاد وتترك الوباء يتفشى، حتى تتنصّل من المسؤولية وتترك الموت يحصد الأرواح. ليس أسهل على الرأسمالية الكبرى أن تفتح الاقتصاد. مما يؤدي الى تراكم الأرباح والثروات، وأن تترك الوباء لمن هم أهل لمواجهته. مساكين هؤلاء العلماء. رأيهم شيء، وخضوعهم لإرادة أرباب السلطة شيء آخر. إبداء الرأي الموضوعي يستدعي الاستغناء عنهم ليصيروا هم عاطلين عن العمل.
قتل امرئ فى غابة جريمة لا تغتفر … وقتل شعب آمن مسألة فيها نظر
رصدت أموال هؤلاء لمساعدة المنكوبين بالوباء. الفتافيت سوف تذهب الى الطبقات الدنيا، والقسم الأكبر سوف يذهب لدعم الشركات الكبرى. مع ضرورة تذكّر ما حدث في أزمة عام 2008 المالية: انتقاء الشركات الكبرى، والمطيعة. بعض الشركات الكبرى التي لم تطع تركت في سبيلها الى الإفلاس.
طبعاً يذرف التماسيح الدموع شفقة على الأعمال التجارية والحرفية الصغيرة، وعلى العمال المصروفين. يُراد لنا أن نقتنع أن هؤلاء العمال سوف يُعادون الى العمل بوجود الروبوت والذكاء الاصطناعي، وكل منهما يعني الاستغناء عن العمل البشري. ويُراد لنا أن نقتنع أن أصحاب الأعمال الصغرى والمتوسطة لن يكونوا تحت رحمة الشركات الكبرى التي تمدهم بمواد الصناعة وبذور الزراعة وقطفها وحصادها، أو تميل الى ابتلاعهم (شراء شركاتهم).
من طبيعة الرأسمالية التكاثر والنماء، من أجل تراكم الربح وتكديس الثروة. لا تستطيع الوقوف مكانها. يتوجب عليها التوسّع والتمدد. عندما سئل الرأسمالي في فيلم وال ستريت ما هو الأكثر الذي تريد كي تصبح سعيدا؟ قال: أكثر. ماذا سيفعل أصحاب الأعمال بالذين كانوا يعملون لديهم وسرحوا في بداية الحجر. وهؤلاء يعدون ربما بمئات الملايين حول العالم. هل ستبقى الحدود مقفلة أم تعود منفتحة على بعضها حول العالم؟ هل سيغتنم رجال الأعمال الفرص من أجل استخدام المزيد من الروبوتات والاستغناء عن الأيدي العاملة البشرية. هل سيبقى عدد العاطلين عن العمل مرتفعا؟ في الولايات المتحدة وحدها يقارب عدد العاطلين عن العمل العشرين مليوناً. وهل ستنكمش سوق الاستهلاك مع انخفاض عدد العاملين؟ وهل تستطيع الدول معالجة الأعداد الكبيرة من العاطلين الذين يطالبون بحقوقهم في التعويضات.
في أزمة 2008 كان الهجوم على صناديق التقاعد. عشرات ألاف المسنين خسروا مدخراتهم. هل ما بعد هجوم الكورونا يكون الهجوم على القادرين على العمل بسبب عدم جدواهم مع استخدام التكنولوجيا الجديدة من الروبوت الى الذكاء الاصطناعي؟ حتى الأمم-الدول التي تبدو متماسكة الآن، هل سوف تبقى على تماسكها مع ازدياد العاطلين عن العمل، وتبلور ثقافة للفقراء خارج إطار النظام؟ لا ندري إذا كان مشروع سياسي للفقراء سيتبلور. لكن المشروع الرأسمالي هو هو: تراكم ثم تراكم. هل سيجرؤ أصحاب الرأسمال على مصارحة شعوبهم والقول لهم أن وجودهم لم يعد لازماً؟ العاطل عن العمل الذي يبحث عن عمل ولا يجده، الفاقد وظيفته، هو لا لزوم له. سوف تكثر أعداد الذين لا لزوم لهم بين البشر.
الاقتصاد الرأسمالي النيوليبرالي يؤمن بخرافة السوق، وأن “اليد الخفية” تنظّم السوق، وأن السوق تنظّم نفسها بنفسها. دأب الأكاديميون يدرّسون ذلك في الجامعات منذ عقود. أخرجوا الأخلاق والسياسة من الاقتصاد. أخطأوا مرات ومرات في توقع الأزمات. والرأسمالية تصيبها أزمات تتكرر مع الدورة الاقتصادية، أو ما يسمى دورة الأعمال من توسّع الى انكماش والعكس. الانكماش الآن كبير والعبء الأكبر على الدولة. أصحاب الرساميل الكبيرة ومالكو الشركات العابرة للدول لا يهمهما الأمر. في الحقيقة لا يهمها مصير البشر وفقرهم وإفقارهم. الرساميل في تجوال دائم حول العالم بحثاً عن الأيدي العاملة الرخيصة. لا يهمها ازدياد عدد الفقراء. فيروس الكورونا يتكفّل بهم، بالأحرى يتكفّل بإبادتهم. لذلك يشك الكثيرون في الإحصائيات المعطاة حول المصابين والمقتولين بسبب الوباء. ومن غير المستغرب أن تتلكأ الشركات في صنع الأقنعة الواقية، وفي الصنع الأدوية والطعوم وآلات التنفس. من يقتنع بأن الولايات المتحدة لا تستطيع صنع ما يكفي من الكمامات لحماية الجسم الطبي؟ على كل حال، الكل يعلم أن الإصابات تطال الزنوج بنسب أعلى بكثير من البيض، وأن الأطباء والممرضات وبقية الأجهزة الطبية المستوردة (المهاجرة) من الخارج يوضعون دائماً في المواجهة. لا ضير على رأسمال البلاد إذا أصيب هؤلاء. فهم ذوو جلدة سمراء يمكن الاستغناء عن أصحابها.
عندما كانت العولمة هي دين العصر قبل الوباء (والأزمة الرأسمالية الراهنة) كان التفاهم مع الصين ضرورة الضرورات. كانت الصناعة الأميركية والأوروبية بحاجة لأيد عاملة رخيصة ومضطهدة في الصين وبقية أسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية وأفريقيا. مع الروبوت لا لزوم لهذه الأيدي العاملة. ويصر القادة على الجانبين على الاتهامات والاتهامات. يريدوننا الابتعاد عن الظن بأن هذه الأيدي العاملة (الرخيصة والمضطهدة) لم تعد لازمة ما دامت الرأسمالية لديها ما يحل مكانها؛ وبذكاء أيضاً مع تطوّر ما يسمى الذكاء الاصطناعي.
لا لن تعود الأمور الى طبيعتها. ببساطة ليس هناك طبيعة معطاة للرأسمال. هو يتطوّر حسب مبدأ الربح وتراكم الثروة وحسب. هل دخلنا، أو سندخل، في مرحلة تعود الصناعة من العالم المنكسر الى البلدان الصناعية المتقدمة التي بدأت بتدمير المنظمات الدولية (منظمة الصحة العالمية وغيرها من مؤسسات الأمم المتحدة)؟
سيعود الرأسمال الى تمركزه. المشكلة في الاستهلاك. الرأسمال يلزمه الناس لمستهلكين. مع افقارهم لن يكونوا مستهلكين. هذا تناقض أساسي في بنية ومنطلق الرأسمال. “الحل” الوحيد هو الدين. تفرض الرأسمالية على فقرائها وفقراء العالم، بما في ذلك دولهم، المزيد من الديون، كما دأبت تفعل منذ الثمانينات، بل منذ القرن التاسع عشر. وهي أي الرأسمالية مزودة بوسائل العنف لفرض ذلك. ما كانت أزمات ديون دول العالم الثالث وأفرادها إلا مفتعلة. الاستدانة في سبيل الاستهلاك. تراكم الدين ثم تزايد التراكم الرأسمالي لا بواسطة السوق بل بواسطة وسائل العنف. تراكم الثروات، ازدياد أرباح، بواسطة النهب ونزع الملكيات، أو ما يسمى الخصخصة، وعودة الى التراكم البدائي بانتزاع الملكية. وفي هذا تطبيق لمبادئ الرأسمالية الأساسية، وأهمها التراكم البدائي باغتصاب الملكية.
لم يتراكم الديْن على بلدان العالم الثالث لأن بلدانه أرادت الاستدانة، بل لأن الاستدانة فرضت فرضاً. الديْن هو في صلب النظام الرأسمالي، في صلب تكوينه منذ أن بدأ قبل عدة قرون. موجة جديدة من الدين حول العالم. بقي لدى البشرية شيء أو أشياء يمكن نهبها لاسترداد الديْن أو لخدمته. بكل ما أوتي من قدرة على النفاق، يطرح ماكرون إلغاء خدمة الدين على دول أفريقية. هذا في حين أن أصول الدين مشكوك في الطريقة التي حصلت بها، وفي الإنفاق الذي تم على أساسها، وفي الأهداف المعلنة وغير المعلنة لتراكمها. التشليح بالديْن وسيلة قديمة جديدة. في العالم القديم كان من يتخلف عن وفاء الديْن يُحال كي يصير عبداً لصاحب الدين. جيوش الغرب وأساطيله المنتشرة حول العالم كفيلة بذلك. الديْن يسترد وإلا…
مع تفكك نظام العالم، ستُرمى العولمة في سلة المهملات. وسيحيل مكان الديبلوماسية، والحوار والسياسة، ميل للتنافس التجاري القائم على الحماية الجمركية. حرب جمركية كما كان الأمر عليه بين الحربين العالميتين الأولى والثانية. علينا أن نذكر أن الانكماش الكبير الذي حصل بعد أزمة 1929 لم يكن له حل إلا بالحرب العالمية الثانية التي أدت الى زيادة الإنتاج الحربي وتخفيض مستوى البطالة.
رأسمالية دون عنف أمر لا يمكن تصوره. يعلن الرئيس الأميركي مرة بعد مرة عظمة واستثنائية الولايات المتحدة. العودة الى الهيمنة والسيطرة من طرف واحد هو أمر اليوم. لا تسمح الرأسمالية الكبرى ودولها بالتجارة الحرة وإلغاء حرب التعريفات الجمركية إلا عندما تكون هناك سيطرة قطب واحد على العالم. المنافسة مع دول متقدمة أخرى تجر الى حروب كما أدى الأمر الى الحرب العالمية الأولى ثم الثانية. يبدو أنهما وما بينهما من عشرين عاماً، كانتا حرباً واحدة. صارت الولايات المتحدة قطباً واحد بعدهما. وبقي الاتحاد السوفياتي يلهث وراءها، الى أن سقط في 1989. هل سوف يحدث أمر مماثل مع الصين التى حاولت على مدى السنوات الماضية أن تصبح قطباً ثانياً؟ يبدو أن التحرك ضد الصين قد بدأ؟
بعد الكورونا سيكون صعباً حل مشكلة البطالة التي سوف تبلغ المليارات من البشر. سوف يطالب هؤلاء بحقهم في العمل والحياة. بمقدار ما تمارس الأنظمة الحاكمة العنف ضد هؤلاء. لن يكون متاحاً لهؤلاء سوى الارتداد لاستخدام العنف. يعني الأمر فوضى تعم العالم. الفوضى لا يمكن احتواؤها إلا بالقمع. الكورونا فجر أزمة حادة في النظام العالمي الرأسمالي. الأزمة هي بين الدول أركان هذا النظام، وأخرى بين حكومات هذا النظام ومجتمعاتها. لن يعود النظام الرأسمالي الى سابق عهده ولن يكون الحل لأزمته إلا بإسقاطه. دون ذلك أهوال. إذ كيف يسقط النظام دون أن يكون لخصومه مشروع أممي تدافع به البشرية عن وجودها. وستكون المواجهة بينهما شديدة العنف والدموية. هذا ما توقعه، أو توقع شيئاً مشابهاً له، بعض قادة النظام والعارفين بشأنه.
تنشر بالتزامن مع مدونة الفضل شلق