لنرجئ رثاء الشهداء، ولنتفرغ لتشييع وهم “الدولة” التي أعجزتها الطائفية والمذهبية عن أن تولد بمؤسسات حقيقية، لا تفبركها مصالح مستغليها ثم توزعها على من يحولها إلى مزرعة خاصة يمنع على الرعايا دخول جنتها والإفادة من ثمارها الشهية.
لنحترم الموت الذي اختار الشارع وبيوت الناس الطبيعيين، الآباء والأمهات والأطفال وبائع الحليب وموزع الخبز بالثمن على جوع الفقراء.
لنحترم القهر المغمس بدماء الفقراء الذين أعلن موتهم، أخيراً، وسمح بتشييعهم إلى المقبرة التي صارت جنتهم المفقودة، خلال بحثهم عن وهم الوطن.
ليس للرعايا هويات. لقد ماتوا كما عاشوا بلا أسماء، فالأسماء للقادة المخلدين. وكيف يكون لك اسم إن لم تكن مواطناً.. ولكي تكون مواطناً عليك أن تستولد وطنك بدمك، فإذا ما استولدته نزع اسمك عنه لتغيير هويته بحيث تأخذ من الريح هويتك أو تأخذك النار مع الهوية. لا هوية للفقراء وأبناء السبيل. الهوية لأصحاب الألقاب فقط، فما لقبك أيها البائس الذي استولدتك المصادفات ويأخذك الحريق أو يتهدم بيتك المتداعي مع أطفالك الذي يحلمون بالوطن.
الوطن؟ هي كلمة ذات دوي، لذلك لا تستخدم إلا في الشعر، والشعراء يتبعهم الغاوون، وممنوع عليك أن تكون غاوياً، فالنكرة يعيش بلا اسم ويدفن في مقبرة المجهولين.
وطالما ليس لك وطن فكيف تكون مواطناً؟ لقد عشت نكرة ونكرة ستموت، ولن تستطيع نزع اسم المدفون في مقبرة الناس لكي تضع اسمك فوق قبرك. مجهولاً عشت ومجهولاً تموت، فالأسماء لمن يحملون الهويات المذهبة ودفاتر الشيكات ذات الأرصدة بالأصفار العديدة..
رصيدك، وبالدولار، يمنحك شرف حمل الهوية ذات الأرزة، فإن لم يكن معك من الدولارات مبلغ بأصفار كثيرة عشت مثل سائر المجهولين من أمثالك الذين يعطون الوطن دماءهم من أجل هويته، ثم يدفنون بلا مشيعين في مقابر الدهماء وأبناء السبيل.
للوطن أهله. هو كالمصرف التجاري: من لا رصيد له، لا هوية له.. يكفيه أن يدفن في تراب وطن الأرز.
المقابر ذات الفخامة والتي تحيطها الأسوار (خوفاً من سرقتها..) هي لمن يملك البلاد، وأنت مجرد لاجئ، ابن سبيل، عابر إلى حيث يتخيل أو يتمنى أو يحلم .. إذا كانت الأحلام متاحة، أو مسموح بها، بعد.
لقد ذهب الانفجار الأعمى بالأحلام. وأدها ودفنها في البحر مع جثث العمال الفقراء ورجال الأمن المكلفين بحراسة البحر والسمك والنورس!
..في انتظار فجر يحول “الكيان” إلى “وطن” ويحول أهله إلى مواطنين ينتمون إلى “شعب” له مستقبل في أرضه.
اهرب إلى أحلامك، الحياة بلا أحلام تكرار ممل لأخبار الذين لا يستحقون بضعة سطور في مرثاة الذي سقطوا ضحايا انفجار الإهمال في وجوه وضلوع وقلوب الباحثين عن الرزق الحلال.