كتب نصري الصايغ:
ينتمي لبنان الى “منظومة” الدول، التي بنت “سياساتها” على تراكم خيباتها وخسائرها وفضائحها. أفدح ما في تاريخ لبنان انه يعادي نصوصه. القوانين ومواد الدستور، فلنذهب إلى الجحيم. العدالة، دين راق. يدوسه السياسيون والطائفيون والرأسماليون ولصوص الفتاوى وزعران الاجتهادات وزبانية التحقيق وشياطين اصدار الاحكام، والأخطر، اولئك الذين يؤمنون أن تنويم القضايا في الادراج، فضيلة تدر مالا مشبوها ومواقع غير جديرة بحمل اسمائها.
القضاء في لبنان، ساهم في القضاء على لبنان. هذا بلد داشر وفالت من العدالة. ودرج مؤخراً شعار تافه ومضل: أصلحوا القضاء، تصلح السياسة… كذب. الإصلاح في القضاء مستحيل، لأنه ملحق بالطبقة السياسية، وخاضع لنفوذ الاقوياء المتسلطين، ولأنه فوق المحاسبة. القضاء لا يُحاسِب ولا يُحاسَب.
كذبة فجة: “ارفعوا ايديكم عن القضاء”. كذبة فاجرة هذه.
القضاء ليس بريئاً، فهو من يستجدي السياسيين. انهم كشجر الحور، يميلون مع كل هواء او هوى سياسي.
“ارفعوا يديكم عن القضاء”، تعفي القضاة من المساءلة: اليس القضاء في لبنان، على مر الزمان، يمد يديه طلباً للدعم ولتبادل المنافع والرذائل والمظالم والخوَّات والفساد. القضاء، يسأل عن مسلكيته هو بالذات، قبل أن تسأل الطبقة السياسية عن… وقبل أن يطلب منها أن ترفع اياديها عن السلطة الرابعة… اصلاً، يجب أن تلغى لفظة السلطة عن القضاء، لأنه تخلى على سلطاته وقوانينه، كما يجب أن تلغى المرتبة الرابعة، لأن سلوك القضاء انحط إلى درجة التسوُّل والتبعية، وبات السجين المثالي سياسياً، عندما تخلى عن وظيفته كحارس للقانون، وكسجان لمن يخالفه. من دهاليز “العدالة اللبنانية”، دواء النوم. لدى اجهزة القضاء وسيلة مثالية للتهرب. انهم يحيلون القضايا إلى دور المنامة. بالعربي المشبرح، ينومِّون الملفات. ولننتبه. فقط الملفات الدسمة يسمح لها بالنوم، شهراً، سنة، عشرا، عشرين، إلى مرتبة النسيان والموت. كل الملفات الدسمة نائمة. عفوا. هي منوَّمة، ويتم تنويمها بمواد تقتنص من بعض القوانين.
فالج، لا تعالج. اصلاح القضاء الموعود، لن يتم ابداً في ظل هذه السلطة. يا ناس، المرتكبون معروفون. اسماؤهم تلمع في سماء الفضائح. بعضهم يتباهى. يا ناس، قصورهم تدل عليهم. طريقة بذخهم تشير إليهم تعاليهم عن الضعفاء والفقراء، يدل عليهم. ارصدتهم تشير إليهم، ثم، وهنا الأنكى، ملفاتهم الموجودة تفصح عنهم، ومع ذلك، فان التعامل معهم، يتم، كالصلاة للقديسين والاولياء.
عبث. لا تتفاءلوا ابداً بالتشكيلات. تفاءلوا يوما ما، او سنة ما، او بعد عشر سنوات، إذا رأيتم فاسداً خلف القضان، او إذا رأيتم قاضياً، او عدداً وفيراً من القضاة، يخضعون لحكم عادل، ينتزع منهم ما أخذوه ظلما وفي الظلام، ويودعون عند بيت خالتهم كالأيتام… انتظروا. وإذا متم قبل ذلك، اوصوا اولادكم بذلك.
هل نعتدي على القضاء؟ ابداً. القضاء يعتدي على نفسه وعلى سمعته وعلى سويته وعلى اخلاقياته وعلى التزامه النص، كأنه نص منزل من عند الشعب، الذي قال عنه الشاعر السوداني محمد الفيتوري: “لا تلمني… قد أصبح الشعب إلها”. للأسف، قبل الانتفاضة الراقية والنقية، كانت السلطة تتعامل مع شعبها كحثالة او كنعجة تساق إلى المهانة كل يوم.
والله… اللبناني كائن نبيل مسخته الطبقة السياسية عبداً مأجوراً وملحقاً.
ويقال: لا يخلو القضاء من الأوادم. صح. لكنهم قلة، او قلة لا تبادر.
تكتفي بنظافة كفيها، ولا تؤثر بمن تلطخت يداه، وبمن يسير على جبهته خلف حاميه وحراميه.
لهؤلاء النبلاء جداً، نرفع التحية. نعرف بعضهم. انهم قلة. غابة الفساد تخفي هذه الوجوه والعقول والاخلاق. انهم من سلالة امرأة قيصر المباركة. هذه القلة، تنتمي الينا، نحن الناس الذين تحررنا من التبعية والطائفية والزبائنية. وعلينا في الانتفاضة أن نشد ازر هؤلاء ونشد الخناق على اولئك. ورجاء من دون تسمية راهناً، لأن سيف السلطنة والتسلط طويل. كل كلمة بحق القضاء، نحاسب عليها. على أن يكون حساب هذه المقالة متخففاً، فقط، لأن امرأة قيصر، هي أمنا.
لا تعوَّلوا على اصلاح النظام السياسي اللعين، قبل اصلاح القضاء الملعون.
التشكيلات التي يتم انضاجها اليوم، يقال انها ستخلو من عيوب الماضي.
من يصدق هذه المعجزة؟
انا لا. لم يأذن أحد بعد، بإحداث المعجزة. والمعجزة تأتي بعد أن ينتصر ابو القاسم الشابي. “إذا الشعب يوما… فلا بد للقضاء أن يتحرر”. انها مسؤولية الشعب في انتفاضته. طهروا القضاء وحصنوه. عندها يبدأ الاصلاح السياسي. فلتكن السلطة الرابعة في المرتبة الاولى، ولترفع “الكتاب” سيفاً فوق رؤوس الجميع.
برغم كل هذا السواد، لحظة تفاؤل، تسكرنا. فلعل وعسى يحدث ذلك قريباً. هناك بشائر. نحن بالانتظار. لأي اصلاح صغير، سنرفع الكأس ونشرب نخب امرأة قيصر.
يللا…”كاسكن”.