توطدت علاقتي بـ“السفير” بفضل طلال سلمان وافتتاحيته الشهيرة “على الطريق” ومضمونها النقدي للقضايا العربية. كنت أشعر بأنها تنسجم فعلاً مع شعار “صوت الذين لا صوت لهم”. كان طلال سلمان يكتب بسمفونية صحافية لا مثيل لها. أعجبني كثيراً شعار الجريدة؛ كان يُعبّر عنا كجيل شبابي في العراق وباقي الدول العربية، نحن الذين كنا نُشعر “أن لا صوت لنا”!
أستطيع القول إن علاقتي مع “السفير” بدأت في العام 1977 عندما كنت طالباً جامعياً في كلية الإدارة والإقتصاد حيث كنت أحرص على شراء ما يتوفر من أعداد جريدة “السفير” من إحدی مكتبات شارع السعدون التي تعرض المطبوعات والصحف العربية وبينها “السفير” و”الحوادث” من لبنان. طبعاً؛ لم تكن “السفير” متاحة لنا في جميع الأيام وإنما تِبعاً لمزاج الرقيب الأمني الذي كان يحجبها في أحيان كثيرة بسبب إفتتاحيات طلال سلمان المنحازة للشعوب العربية.
تعرفت من خلال “السفير” علی “حنظلة” الرسام الفلسطيني الشهيد ناجي العلي الذي كان يُدغدغ مشاعري برسومه الكاريكاتورية الجميلة والمُعبّرة، ولا سيما تلك التي تعكس قضايا فلسطين الحقة.
إنحازت “السفير” إلى قضايا العدالة في كل مكان. كانت صفحاتها ترصد حراك الشارع الإيراني ضد الشاه وصولاً إلى إندلاع الثورة الاسلامية بقيادة الإمام الخميني في العام 1979. كنت، حينذاك، مُعجباً بما يحدث في ايران. إنها ثورة البؤساء والمحرومين والمستضعفين، وهي توصيفات لم تبخل “السفير” في تسليط الضوء عليها مثلما كانت ريادية في كتابة عنوان “مانشيت” الصفحة الأولى بالفارسية يوم قرر الشاه محمد رضا بهلوي مغادرة طهران، وكان العنوان كالآتي: “بهمّتِ خميني.. شابنشاه دَرْبَدرْشُدهْ”، لنفاجأ في اليوم التالي بحوار مطول أجراه طلال سلمان مع الإمام الخميني في فرنسا قبيل عودته إلى طهران.
في العشرين من يونيو/حزيران 1980، خرجت آخر مرة من العراق مسقط رأسي وعرين حياتي لتحط بي الطائرة في دمشق قبل أن يستقر بي المقام في لبنان وتحديداً في أحد فنادق “بحمدون المحطة”.
كنت أمضي جزءاً من وقتي في مكتبة بحمدون الصغيرة التي تحتوي علی كتب ومجلات وجرائد. السبب هو تعطشي لما كان مفقوداً في بغداد بفعل رقابة الرقيب العراقي. الأولوية لصحيفة “السفير” التي تربطني بها علاقة منذ سنواتها الأولى.. كنت أقرأها “من الجلدة إلی الجلدة”. كانت نافذتي الوحيدة لمحاولة معرفة ما يحدث في العالم ومنطقتنا العربية. كنت أحاول أن أتعلم لغتها المهنية الجميلة. لغة السهل الممتنع التي أرساها طلال سلمان ورفاقه وجعلوها مدرسة في تاريخ الصحافة العربية.
لاحقاً، انتقلت من مصيف بحمدون للسكن في العاصمة اللبنانية وتحديداً في محلة الشياح علی خط التماس بين بيروت الغربية وبيروت الشرقية. كانت الأوضاع في العراق تغلي غداة إعدام الإمام السيد محمد باقر الصدر في 9 أبريل/نيسان 1980. اعتقالات بالجملة. اعدامات علی الهوية. تهجير رسمي ممنهج للعوائل العراقية من دون ذنب إلا انها تنتمي إلى طائفة معينة. لم أكن قد تجاوزت الخامسة والعشرين من عمري. قرّرت أن أزور معظم رؤساء تحرير الصحف اللبنانية مُتبرعاً بعرض القضية العراقية. لم يكن الوضع الأمني في بيروت ملائماً للتنقل في ظروف الحرب الأهلية؛ وفي المقابل، كانت الأجهزة الأمنية العراقية تسرح وتمرح في بيروت محاولة تلميع صورة صدام حسين ونظامه الديكتاتوري في وسائل الإعلام اللبنانية والعربية. مهمة إقتضت توزيع هدايا وهبات وأموال وعطايا على أحزاب في غرب بيروت وشرقها من دون استثناء وكانت ملاحقة معارضي نظام صدام حسين في أولوية الأولويات، وهذا الواقع جعلني أتحرك بحذر مخافة الوقوع في آتون حواجز ومناطق مشبوهة ودكاكين حزبية لبنانية وفلسطينية.
في هذا السياق، قرّرتُ أن أزور جريدة “السفير” وأن أحاول الإجتماع برئيس تحريرها الأستاذ طلال سلمان الذي تربطني به وبجريدته سنوات من الإهتمام والشغف والمتابعة من دون معرفة مباشرة. كنت أعرف أيضاً أنه رئيس تحرير صحيفة “صوت الذين لا صوت لهم”. في تلك الليلة فكّرتُ بالمواضيع التي سأثيرها معه؟ وكيف يُمكنني أن أجعله يتفاعل معي ومع قضايا العراق؟
قرّرتُ الذهاب صباحاً إلى مكاتب “السفير” في منطقة الحمرا في رأس بيروت. سألني موظف الإستقبال والإستعلامات على مدخل الصحيفة “من أنت”؟ قلت له هذا إسمي وهذه صفتي وتمني لقاء الأستاذ طلال سلمان: “قولوا له هناك شاب قادم من العراق ويريد أن يأخذ دقائق قليلة من وقتك”. أجری الموظف في مدخل “السفير” أكثر من اتصال قبل أن يُبلّغني بأن موعدي تحدّد في العاشرة من صباح اليوم التالي.
لم تدم رحلتي طويلاً من الشياح إلى الحمرا. شابٌ نحيفٌ يتكلم اللهجة العراقية ولا يلبس الياقة البيضاء. شكله أشبه ما يكون بجيل الشباب اليساري المتحمس في تلك المرحلة. إستقبلني طلال سلمان في مكتبه في الطابق السادس وسارعت إلى تعريفه بنفسي إسماً وهوية واتجاهاً سياسياً. قلت للأستاذ طلال: أنا من أبناء الإمام السيد محمد باقر الصدر. ثوانٍ قليلة وهبّ من خلف مكتبه ليجلس قبالتي على كرسي خشبي ثابت حيث راح يُنصت إليّ باهتمام كبير. شرحت له الوضع في العراق ولم يكن بيننا وبين إعدام محمد باقر الصدر سوی بضعة أسابيع. طلب مني معلومات أكثر تفصيلية عن ظروف اعتقال واعدام السيد الصدر وما هي حقيقة الأوضاع في النجف وكربلاء وبغداد. كان صدام حسين للتو قد أصبح رئيساً بعد إزاحة أحمد حسن البكر وإعدام ثلة من رفاقه بحجة مؤامرة مزعومة من الرئيس السوري حافظ الأسد. حدّثته عن القمع والاعتقالات والاعدامات. أحسست أنه لم يكن بعيداً عن مثل هذه الأخبار، إلا أنه كان يريد أن يسمع أكثر فأكثر.
كنتُ حديث التخرج من الجامعة ولم أكن بعيداً عن أجواء الضغط التي راحت تمارسها الأجهزة الأمنية العراقية عبر ذراعها “الإتحاد الوطني لطلبة العراق”. لم تكن الحرب العراقية الايرانية قد بدأت بعد.. قلت للأستاذ طلال إن الوضع في العراق غير طبيعي؛ فقاطعني سائلاً “إلی أين تتجه الأمور”؟ لا جواب مقنعاً له ولي لكنني كنت أتوقع انقلاباً عسكرياً على يد رفاق من أعدمهم صدام، وهم أعضاء في القيادتين القطرية والقومية لحزب البعث الحاكم وهو الأمر الذي لم يحدث.
كان طلال سلمان ينظر إلى ساعته بين حين وآخر وشعرت أنه ملتزم بموعد آخر؛ وعندما استأذنته الرحيل طلب مني الإسترسال أكثر في الحديث. وبالفعل إمتدت جلستنا ولمست تواضعه وحسن اصغائه وعمق تفكيره. بعد ساعة تقريباً؛ قال لي “وماذا تريد من السفير”؟ قلت له إن مأساة الشعب العراقي مضاعفة. صدام حسين يقتله من جهة والاعلام العربي يقتله بصمته من جهة ثانية. وأكملت أن صوت النظام أقوی من صوتنا. أجاب طلال سلمان بصوته الخافت ولكن الواضح: “هذه الصحيفة لك ولأصدقائك ورفاقك. إعتبروها صوتكم وجريدتكم”.
في ذلك اليوم، لمستُ أن طلال سلمان إنسان أولاً؛ مسؤول ثانياً والأهم أنه يهتم بمعاناة العراقيين وبكل قضايا الأمة.
رحمة الله عليك أستاذ طلال سلمان. لم تكن إنساناً مهنياً من الطراز الأول فقط بل صاحب قضية.
نشرت في موقع 180 بوست