السيادة هي الاستقلال عن الخارج. تحرر البلد من سيطرة قوة أجنبية تحتله أو تحكمه وتتخذ القرارات له وبالنيابة عن شعبه. الاستقلال، أي السيادة، هو عندما تكون الدولة شرطاً لكل ما عداها، ولا شرط عليها. دول كثيرة تستقل عن الخارج وتبقى تابعة له في قراراته. فهي ناقصة السيادة. لكن عوامل داخلية هي التي تؤدي أيضاً الى فقدان السيادة.
تحصل السيادة عندما يحكم الشعب بنفسه ولنفسه، وعندما تكون مصالحه ذات أولوية على كل المصالح الخارجية. لا يتحقق ذلك إلا بأن يعتبر الجميع أنهم مواطنون في الدولة، مشاركون في قراراتها. تُتخذ قراراتها بالسياسة، أي تكون حصيلة النقاش والحوار بين الناس. آلية أخذ القرار وتنفيذه تكون بيد السلطة (الحكومة وأجهزتها) التي تعمل في اطار الدولة؛ تكون شريكة للناس في اطار الدولة. الدولة هي الاطار الناظم للمجتمع. ليست كيانا غريباً عنه ملصقاً فوقه يمارس العنف لإخضاع الناس؛ لا يهمه إلا رضا الناس من أجل الشرعية. الحكم الاستبدادي فاقد الشرعية بطبيعته. هو اعتداء على السيادة. عندما تتغوّل الطوائف، تسيطر على أتباعها. يسيطر عليها أكباش الطوائف. يكون ذلك اعتداء على السيادة وانتقاصاً منها.
في كل بلد تعددية دينية وإثنية أو عشائرية أو غير ذلك، أو كل ذلك مجتمعاً. التعددية الطائفية لا تلغي السيادة إلا إذا كانت كل طائفة تعتبر نفسها تنظيما سياسياً. الطائفة الدينية أو الإثنية أو العشائرية اعتداء على الاستقلال وعلى الدولة وعلى السيادة. تدخل الطائفة المجال العام لتحاور بالنيابة عن أتباعها. لا تكون السيادة حقيقية إلا عندما يدخل الأفراد المجال العام كأفراد: يناقشون ويتحاورون بالنيابة عن أنفسهم ولأنفسهم. مجتمع السيادة يتكوّن من أفراد مواطنين لا من طوائف أو ما يُسمى حديثاً مكونات؛ مكونات المجتمع تلغي المواطنة حيث يسيطر أكباش الطوائف. يتحدث كلٌ منهم بالنيابة عن الطائفة أو الإثنية، أو عن جزء منها. السيادة هي سيادة الشعب على نفسه. هي الاستقلال الحقيقي. ليست شيئاً خارجياً. يتحد المجتمع عندما يحكم نفسه بنفسه. وتعلو الوحدة على التعددية أو تصبح التعددية خلفية ذهنية لا عنصراً في التشكيلة الاجتماعية والسياسية، وتصير الدولة الهم الأوّل للناس، لا “المكونات” مهما كان شأنها. في مجتمع من هذا النوع يستبطن المواطن الدولة في ذاته. يصير مواطناً حقاً، لا عضواً في مكوّن. هاجسه الدولة ومجتمعها في كلتيهما وليس المكوّن الذي يفترض الانتماء إليه. حينها يكون قد تحرر من مصادرة الطائفة أو المكوّن له. المواطن الحر المتفلت من كل طائفة ومكوّن هو عماد الدولة. لا تكون الطوائف والمكونات عماد الدولة لأنها هي ما يجعل الدولة تتآكل. ولأنها تعتبر مصلحتها تتوافق مع مصلحة الدولة ولا تتناقض معها. الطوائف والمكونات تدمر الدولة. المواطن الحر يحيا بها. سمو الدولة على كل مكوناتها الاجتماعية هو مصدر القوة للمجتمع. أولوية المكونات والطوائف مصدر ضعف للدولة، والعجز عن القرار، وتقطيع أوصال المجتمع. وحتى تراكم الدين العام. في النهاية الدين العام وسيلة الدولة العاجزة لإرضاء مكوناتها وطوائفها. وقرارات البرلمان بقبول دفعات الدين العام هي لإرضاء الطوائف والمكونات. لا يحصل الدين العام خلسة أو تسللا، بل برضا الطوائف والمكونات. ويصوت عليها المجلس النيابي. وكل دين عام هو نتيجة عجز وتخل عن السيادة. هو ارتهان لقوى خارجية أو داخلية؛ هو تعبير عن العجز الداخلي والعجز تجاه الخارج؛ كما هو تعبير عن عجز الدولة فوق عجز المجتمع.
عجز المجتمع يتمثّل في أن الواردات مما نستهلك تفوق الصادرات مما ننتج، وأن الدين العام كان في معظمه لتمويل الاستهلاك لا الإنتاج. يواكب ذلك عجزاً في ميزانية الدولة، وهذا بموافقة المجلس النيابي. نفقات الدولة تفوق ايراداتها، والفرق بينهما استخدم من أجل نفقات جارية وما كان تثميراً في مشاريع إنتاجية أو بنى تحتية. ما أنجز من البنى التحتية كان أقل بكثير من الدين العام. ارتفع الدين في لبنان من أجل الاستهلاك لا من أجل الإنتاج.
اعتقد اللبنانيون أن الأموال تتدفق لسد العجز التجاري، وأنهم يمكن أن يستمروا في حياتهم المبنية على الاستهلاك. وكان النظام اللبناني يشجعهم على ذلك. وكان شعار الفريق المالي (حاكم مصرف لبنان) أن الثقة بلبنان وبقطاعه المصرفي سوف تجعل الأموال مستمرة في التدفق بما يفوق العجز في الميزان التجاري، وبما يحدث فائضاً في ميزان المدفوعات. اعتبر لبنان أن الاعتماد على ثقة العالم الخارجي به وبجهازه المصرفي سوف يضمن تدفق المال، وستكون الثقة راجحة في كفة الميزان. والانفاق على الأمور الاستهلاكية سيكون مبرراً. مرت فترة طويلة منذ بداية التسعينات، وكأن قاموس المصرف المركزي وجمعية المصارف لا يحتوي إلا كلمة واحدة، وهي “الثقة”. الثقة بلبنان وقطاعه المصرفي. سُرّ اللبنانيون بذلك، وانتشرت التسليفات، وخصوصاً بطاقات الاعتماد بشكل غير مسبوق، حتى صار النظام معتمداً على تدفقات المال من الخارج. ودخل الدين كل بيت في لبنان. استدانت الدولة لأهداف استهلاكية، واستدان المجتمع لأسباب استهلاكية. ما أدركوا أن التدفقات الخارجية سوف تتوقف يوماً خاصة عندما تتزعزع الثقة. وما كانت العقوبات الأميركية على حزب الله ومن يدور في فلكه إلا من أجل ضرب هذه الثقة. وجاءت ثورة 17 تشرين الاول 2019 لتضرب الثقة بالطبقة السياسية اللبنانية. وعندما أصر النظام على نمط العيش الاستهلاكي وعلى مقولة الثقة، استفاق اللبنانيون ليجدوا الدولارات قد تبخرت أو أخفيت في مكان ما، وأن حساباتهم في البنوك مجمدة، وأن الدولار ارتفع سعره، وأن النفط (الغاز) غير موجود كما توقعوا (يبدو أن وجود أو عدم وجود النفط في بحر لبنان قرار يتخذ دولياً).!!! زالت الثقة وأصيب اللبنانيون بخيبة، واكتشفوا أن عليهم تغيير نمط عيشهم نحو التقشّف. والطبقة السياسية، ومنها الحكومة الحالية، لا تُدرك أو لا تريد أن تدرك أن المشكلة داخلية وليست في عدم تدفق الأموال أو الاستثمارات، وأن الإصلاح المطلوب ليس فقط في الأمور المالية، بل في نمط العيش. وعندما طرح التفاوض مع صندوق النقد الدولي، لم تُدرك بعض الأطراف اللبنانية معنى الأمر. ولم تدرك أن المشكلة داخلية. وما يُحكى عن شروط صندوق النقد الدولي وغيره من الإصلاح هو حديث عن تغيير نمط العيش الاستهلاكي، وهو أمر داخلي. ما لم يحدث بإرادة اللبنانيين سوف يحدث بأوامر توجّه إليهم من صندوق النقد الدولي وغيره. على كل حال مؤتمر سيدر كان أيضاً مربوطاً بالإصلاحات الداخلية. هذا ما لم تدركه الطبقة السياسية التي استمرت تتعامل مع السلطة (وغيرت الحكومة) وكأن ثورة تشرين 2019 لم تحدث. اعترض بعض الطبقة السياسية في البداية على التفاوض مع صندوق النقد الدولي لأن في ذلك تعدِ على السيادة. ولم يأخذوا بالاعتبار أن اللجوء لصندوق النقد هو نتيجة لا سبب، وأن السبب داخلي. عاش اللبنانيون على الدين، واستخدموا الدين للاستهلاك، وهو في معظمه للاستهلاك. معظم نفقات الموازنة كانت للأجور والرواتب الاستهلاكية بطبيعتها. يُضاف الى ذلك أن الدولة لا تعرف عدد موظفيها بدقة، أو لا تريد أن تعرف؛ التوظيف في إدارات الدولة، ولو خالف القانون، وخالف قرارات مجلس الوزراء، هو وسيلة انتخابية. يوظفون عدداً كبيراً من أتباعهم قبل كل انتخابات، مما يفاقم دين الدولة.
لا يستطيع اطراف السلطة الحالية، كل الأطراف، أن يتبرّأ أحدٌ منهم من الضعف الذي وصلت إليه الدولة (مالية الدولة، كهرباء، ماء، طرقات، الخ…). لقد كانوا مشاركين في السلطة منذ 2005، بل كانوا الشركاء الرئيسيين. وقبل ال2005 كانت لهم اليد الطولى في السلطة وفي أخذ قراراتها. مشكلة الحكومة الآن هي أنهم لا يعرفون معنى الانجاز. منطقهم هو دائماً إلقاء اللوم على غيرهم، رغم أنهم وحدهم في السلطة. الذين هم في المعارضة الآن شاركوا في السلطة لمدة طويلة. لكن أهل السلطة الآن لا يتوقفون عن تبرير عجزهم بأن السبب هو وجود من يعارضهم. تناسوا أن مهمة المعارضة هي المعارضة والنقد. لا يستطيع أحد من أهل السلطة، من هذه الطبقة السياسية التبرّؤ من العجز، العجز في الانجاز، العجز في الوضع الاقتصادي، والعجز في مالية الدولة. يتصرف أهل السلطة وكأنهم جدد في المشاركة، بينما هم مشاركون فيها منذ البداية، بعد الطائف، وإن في فترات متلاحقة، لكن الحق يقال أنهم هم وحدهم المسؤولون عن السلطة منذ 2005.
سر الجميع أنه صار في البلد معارضة وموالاة. وأن كل فريق يتحمل مسؤولية أعماله، وأن المعارضة تراقب السلطة. اكتشف المجتمع أن ذلك غير وارد في أدمغة أهل السلطة والمعارضة، وأن الصراع فيما بينهما هو فقط صراع على السلطة لا على ما يجب القيام به من أجل انتظام عمل الدولة والمجتمع.
ثقافة الإنجاز غائبة عن أهل السلطة، سواء كانوا من المعارضة أو الموالاة. لا يدخل في حسابهم إلا مصلحة أشخاصهم. ومن أجل ذلك يستخدمون الطائفية لاستمالة طوائفهم وإبقائها ضمن قيود الزبائنية والتبعية لهم. هي في الحقيقة تبعية للخارج. معظمهم مربوط رسنه في الخارج. لا يخجلون من ذلك. يبررون تبعيتهم بمصلحة أتباعهم، وهذا أخر همهم. ثقافة التبعية تحل مكان ثقافة الانجاز. في أي خطة اقتصادية أو مالية يضعونها، يكون الاعتماد كما يقولون جهاراً على المساعدات والهبات وليس على العمل والإنتاج. يعجزون عن إظهار الأرقام المتعلقة بمالية الدولة. وما تضارب الأرقام إلا من أجل التعمية. يستطيعون التلاعب بحسابات الدولة أمام مجتمعهم الذي لا يحاسبهم أصلاً. الأمر الذي يستحيل أمام المنظمات الدولية الي تريد منهم حسابات الدولة بأرقام موحدة. ستكون شروط صندوق النقد الدولي صعبة، لكن الأصعب هو الطريقة والوسائل الي يستخدمها أهل السلطة.
لا يمكن للمرء أن يستبشر بقدوم صندوق النقد الدولي، لكن شروط الطبقة السياسية اللبنانية على مجتمعها أسوأ وأصعب. يؤدي صندوق النقد الدولي خدمة كبيرة للبنانيين إذا أجبر الطبقة الحاكمة على مسك الدفاتر وتنظيم حسابات الدولة؛ بغض النظر عن الأمور الأخرى. لا تكون شروط صندوق النقد صعبة إلا عندما تكون السلطة المحلية مهترئة، وهي كذلك بجهود السلطة اللبنانية واستهتارها بمجتمعها واستخفافها بعقل الناس ووعيهم. أمران احلاهما مر. ربما أدرك أهل السلطة مرارة مجتمعهم عندما رحبوا بصندوق النقد غير المحبوب والذي اعتدنا التظاهر ضده. ما أفقر المجتمع اللبناني هو الطبقة السياسية، وسياسات الصندوق الدولي سوف تجعلهم أفقر عندما يقدم أهل السلطة الحساب.
العجز في السلطة حصل قبل الالتجاء لصندوق النقد، وهو عجز سياسي بالدرجة الأولى. هذا أدى الى عجز اقتصادي ومالي. الفساد هو أحد مظاهر العجز، ذلك عندما تعجز الدولة عن محاسبة العاملين لديها، وتعجز عن الإنجاز والعمل بما يفيد الناس.
الدين العام عجز، وهو حصل برضا الطبقة السياسية. وهو عجز في السياسة أولاً، بالأحرى تغييب السياسة وتغليب الطائفية.
لا يمر يوم إلا ونسمع عن خطط يقدمها الوزراء في هذه الوزارة أو تلك. كما قيل في الأمثال السائرة، نسمع جعجعة ولا نرى طحناً. الفساد الأكبر هو كثرة الخطط وقلة الإنجاز. أهم دليل على ذلك هو الكهرباء. شرعنة المولدات في الحياء والامتناع عن بناء محطات انتاج مركزية بدواعي طائفية.
الأمر الجوهري هو انتظام الدولة ثم وحدة حساباتها والموازنة الموحدة. لماذا تمتنع الطبقة السياسية عن ذلك؟
تنشر بالتزامن معمدونة الفضل شلق