حين عقد طلال سلمان الاجتماع الأخير لمجلس التحرير وأسرة “السفير” لإبلاغنا قرار الاقفال القسري، شعرت أنه ابلغنا أن جزءا كبيراً من قلبه قد انتُزِع من بين أضلعه، وكان يتكلم بصوت متهدّج يحمل الأسى بسبب القرار الصعب.
وبعد أسابيع قليلة أُقفلت الجريدة، وبقي مكتبه مُشرّعاً للعاملين فيها، نروح ونجيء ساعة نريد، نلتقيه نتحادث عن خطواته المقبلة وعن أوضاع البلد والناس والمهنة، وطوال لقاءاتنا في السنوات الخمس الأخيرة التي أعقبت الاقفال، لم يكن طلال سلمان كما عهدناه.
جئته مرة حاملاً عرضاً من صديق لي وللجريدة، يسأل عمّا اذا كان طلال يريد أن يبيع امتياز “السفير”، وكان الصديق يعلم أنه في ضائقة مالية. لم يقل نعم أو لا. قال لي فقط: “الامتياز سيذهب معي إلى القبر”.
لهذا القدر كان طلال سلمان عاشقاً لـ “السفير”، فهي كانت روحه الثانية وربما الأولى، كانت شغفه ونبضه وسبب وجوده، يرعاها كولد من أولاده. ويرعانا كعائلته الأكبر.
ومن يوم اقفالها تغيرت حياته على الرغم من ان قلمه لم يتوقف عن سيل الافكار الجارية “على الطريق”… الطريق الذي خطّه وحفره ومشاه مسيرة شاقة لكن مبدعة، ففتح طرقات مقفلة وأنار عقولاً مظلمة للكثيرين عن حقائق الحياة السياسية والعامة بقلم رشيق غزير هادف.
غادر طلال سلمان في السفر الأخير من بيروت إلى شمسطار، التي كان يعشق ترابها والسهر فيها واستقبال الاصدقاء والأحباء في جلسات “مضافة عربية”. لكن شعار “السفير” الحمامة البرتقالية سيبقى طائره الميمون وأسلوب سفره، من قلب إلى قلب، ومن عقل إلى عقل، ومن ذكرى إلى ذكرى، يتنقل عبرها في وجدان الأمة من محيطها إلى خليجها، والتي جالها صحافياً لا يسعى فقط لسبق صحفي أو خبر جديد، بل يحمل قضية كبرى وهدفاً سامياً بأن تبقى أُمة العرب واحدة. لهذا حفر خريطة الأمة العربية عند مدخل “السفير”.
انه السفر الأخير لطلال سلمان على أجنحة من حبٍّ كبير تحمل نعشه، لكن الطريق موجود وطويل وقد حفره الراحل الكبير في وجدان كل قارىء، وهو السائر الأول عليه ولكن ليس الاخير.
فمثله لا يموت، وقد أسس مدرسة صحافية فكرية ثورية وتغييرية ملتزمة، مدرسة ثقافية للنُخَب، كما مدرسة شعبية للناس الفقراء البسطاء تحمل قضاياهم ووجعهم، الناس الذين كان يقول لنا عنهم في كل اجتماع تقريباً: نحن نشتغل عند الناس وللناس، ويجب أن نقدم لهم الافضل.
وداعاً طلال سلمان في سفرك الاخير ونحن متابعون على الطريق.