طريف هو الشيخ صباح الأحمد الجابر الصباح في تصريحاته التي يطلقها قبل وخلال ثم بعد اللقاءات التي يعقدها، كرئيس للجنة العربية للاتصال والمساعي الحميدة مع الأطراف اللبنانيين،
ولولا أحزاننا البعقوبية لكنا تسلينا كثيراً ولكننا ضحكنا أكثر الاكتشافات الشيخ المخنك الذي يذكرنا بذلك القاضي الذي كان كلما استمع إلى وجهة نظر أي طرف من أطراف القضية المعروضة عليه يقتنع بما سمع ويبشر صاحب العلاقة: – والله، معك حق،
.. فلما لفتت زوجته نظره إلى تذبذبه وانسياقه مع كل ما يسمعه رد عليها، هي الأخرى، بموقفه الثابت والدائم – والله وأنت أيضاً معك حق!!
لكن الحق ظل، بالنتيجة ضائعاً، فلا أنصف سعادته مظلوماً ولا ردع ظالماً، ولا استقام، بفضله، ميزان العدالة.
لقد استمع الشيخ صباح، ومعه الأعضاء الخمسة في اللجنة معززة بالأمين العام للجامعة العربية، في الجلسة الأولى لمهمته إلى العماد ميشال عون، فانبسط سعادته وانشرح وقال في ختامها ما مفاده: والله إن الجنرال على حق.
ثم استمع الشيخ ومعه من معه إلى وجه نظر الرئيسين حسين الحسيني وسليم الحص فانكروا بداية ما سمعوه، وألحوا على المصالحة الفورية والنهائية “كتتويج” لمهمة اللجنة وإعلان خلاص لبنان من محنته الدامية… لكن الرئيسين “العنيدين” أصرا على تبيان وجهة نظرهما كأطراف في ميشال عون كطرف، وأعادا التوكيد على طبيعة الأزمة وخطورتها لاتصالها بالمستقبل العربي واحتمالات قيام إسرائيل جديدة.
عندئذ استغرق الشيخ الحكيم في التفكير طويلاً حتى ظنه من معه قد نام، فلما انتبه نفخ وقال: – والله، معكما حق!
وعاد كل من الطرفين اللبنانيين راضياً مرضياً،
واستمرت الأزمة في مكانها راضية مرضية.
في الكويت كان الدور على اللقاء مع “المراجع الروحية”،
ذهب من لبنان ستة، وكانت اللجنة أيضاً من ستة، وفوقها الأمين العام كصوت مرجح،
استمع الشيخ صباح إلى الستة مجتمعين فاكتشف إنهم على حق،
ثم استمع إلى كل منهم على حدة فقرر إنهم فرادى أيضاً على حق، برغم إن كلا منهم قال منفرداً ما لا ينطابق تماماً مع ما قاله في اللقاءات العامة.
وعاد جميع أصحاب السماحة والغبطة من الكويت وقد علت أعلام الحق فوق طائرتهم الميمونة، في حين كان الشيخ صباح يهنئ نفسه ورفاقه بأنهم قد نصروا الحق وأعزوه،
في الجلسة الثالثة بتونس التقت اللجنة حشد الرؤساء السابقين،
وبرغم إن الكثير من هؤلاء مقاطع من الآخرين أو مقاطع لهم، وبرغم إن بعضهم يمتنع حتى عن السلام أو عن رد التحية على البعض الآخر،فإن الشيخ صباح قد وجد إن كلا منهم على حق لا يختلف سليمان فرنجية عن أمين الجميل ولا الجميل عن عادل عسيران ولا صائب سلام عن شفيق الوزان ولا رشيد الصلح عن أمين الحافظ، ولا الكل عن الكل،
بل لقد وجد الشيخ صباح إن من سبق كمن لحق، وتعاظم أمله في أن ينجز ما عجز عنه الوسطاء وسعاة الخير السابقون: أي ابتداع حل للأزمة اللبنانية.
في الجلسة الرابعة بدمشق ومع وفد القوى الوطنية المكون من ستة عشر نفراً تأكد للشيخ صباح – رئيس لجنة الستة – وبعد ست ساعات من النقاش إن هؤلاء المنتقصة حقوقهم في وطنهم وكراماتهم في نظامهم، على حق بين لا مجال لطمسه..
وتوكيداً لاقتناعه العميق بأنهم على حق كشف الشيخ صباح المخبوء، فإذا في جيبه مشروع للاصلاح السياسي للنظام الفريد في لبنان “اقتبسه” عن ورقة العمل المقدمة من المتقدمة عليه (كوسيط) الأميركية ابريل غلاسبي.
بل لقد ذهب الشيخ الدقيق في أحكامه إلى أبعد من ذلك فتبنى صيغة النداء الذي أعدته القوى الوطنية كمدخل إلى هدنة تعيد الوضع في لبنان إلى ما كان عليه قبل 14 آذار 1989، وذلك بوقف فوري وشامل لإطلاق النار، ورفع الحصارات عن جميع المرافئ والمعابر، وإحياء اللجنة الأمنية (التي أعلن حلها ميشال عون) وإخلاء مقرها (الذي احتله عسكر ميشال عون) لتكون المرجع “الشرعي” والجهة المعنية بالتثبت من التزام الأطراف بالقرار العربي الطيب.
… فأما في الجلسة الخامسة بالكويت مع وفد “الجبهة اللبنانيةط والتي امتدت ليومين، ريثما نال كل من أعضائها الخمسة، الوقت الكافي “لإيضاح” ما خفي من رأيه، فلقد خرج الشيخ – الميزان وقد تأثر بالغ التأثر بالحق الذي تنضح به طروحات “الجبهة”.
وهكذا فقد جدد الشيخ ، وباسم اللجنة العربية، طرح الصوت لوقف إطلاق النار في لبنان، بعدما أعمل فيه يد الحذف والتعديل والإضافة.
فالنداء جاء، هذه المرة وبتأثير سلامة منطق “الجبهة”، قاصراً على وقف إطلاق النار، من دون الاشارة إلى رفع الحصارات عن المرافئ والمعابر، ومن دون أي ذكر للجنة الأمنية (بحيث يبقى وقف النار، حتى لو تم، بلا مرجعية، وبلا جهة معنية بالتحقق من الأسباب، ومعنية بالتالي بإزالتها حتى لا يستمر إطلاق النار إلى الأبد..).
ثم إن النداء الجديد “حور” في توصيف أطراف النزاع، فجعلهم “متحاربين” وقد كانوا في النداء السابق “متقاتلين”، وخفف من “لبنانية” الصراع مقترباً من منطق “الجبهة” ومن خلفها “الضابط الصغير” التي هي دائماً على حق.
على إن أخطر ما صدر عن الشيخ صباح هو حديثه عن الانسحابات،
صحيح إنه نص على الانسحاب الإسرائيلي، وأغفل تسمية الجهات الأخرى المطلوب انسحابها، لكن الإغفال هنا أقوى من النص بكثير، كما ولا شك يعرف الشيخ العريق في الدبلوماسية عراقته في البداوة والحكم.
يعنينا هنا ما يتعدى الطرائف في موقف الشيخ صباح،
فلقد انتدب الشيخ نفسه ولجنته لما يتجاوز قدراته وقدرات اللجنة العربية للاتصال والمساعي الحميدة، لاسيما في ظل الظروف العربية والدولية السائدة.
إن الشيخ ، كما توحي تصريحاته، على وشك أن يحل الأزمة اللبنانية بكل تعقيداتها وتشعباتها وأبعادها الخطيرة التي تكاد تتصل بالكون كله،
وبالطبع فليس ثمة ما يسعدنا أكثر من مثل هذا الأمرن إذا ما توافرت القدرة عليه..
لكننا تلوعنا كفاية وتجرعنا من الآمال والوعود والتمنيات العراض من قبل، وكدنا نصدق فكانت النتيجة إن خسرنا المزيد من الضحايا والمزيد من فرص الحل ونحن نركض وراء السراب.
صحيح إن معظم دول العالم، ولاسيما العظمى منها، تعلن تأييدها المطلق للجنة العربية، وتتحدث عنها وكأن قوتها خارقة للمعقول.
لكن الشيخ صباح يعرف، والناس يعرفون، إن هذا التاييد لا يعني أكثر من إن هذه الدول غير جاهزة الآن للنظر في الأزمة اللبنانية، وفي انتظار أن يكتمل جهوزها وحتى لا تتهم بأنها لا تبالي بمصير شعب طيب وفي منطقة شديدة الحساسية وفائقة الأهمية استراتيجياً، فإنها تعهد إلى اللجنة أن تشغل الوقت الضائع، وأن تحضر الملف (الذي سبق أن أعد ألف مرة من قبل).
… وصحيح إن العرب قد جهروا بأنهم يقففون وراء اللجنة ويدعمونها ويتمنون لها النجاح،
لكن الصحيح إن هؤلاء العرب “يختبئون” ، أو هم يخبئون عجزهم وراء اللجنة التي ستكون بإذن الله قادرة … والله على كل شيء قدير!
… وصحيح إن الأطراف اللبنانيين قد أجمعوا على تأييد اللجنة العربية وتعهدوا بالتعاون معها للوصول إلى الحل المرتجى،
ولكن الصحيح إن هؤلاء يعرفون – بحكم الخبرة والتجارب – إن اللجنة مسرح للعب في الوقت الضائع، وإنها تشغل ولا تحل، وإنها ناجحة إذا قرر “الكبار” لها النجاح، وفاشلة إن هم تخلوا عنها وتركوها تضيع بين “حقوق” المتقاتلين المتناقضة… فلماذا إذن يطلع هذا الطرف أو ذاك بسواد الوجه، ولماذا يقدم نفسه وكأنه سبب الفشل، بينما هو يعرف إنه – إذا حد الحد – لا هو في العير ولا في النفير؟!
ترى أين تقف اللجنة من مهماتها الآن وقد انتهت من جلسات الاستماع إلى الأطراف اللبنانيين جميعاً؟!
في ضوء تصريحات رئاسة اللجنة وبياناتها ونداءاتها، نخسى أن تكون اللجنة قد ضيعت الطريق، أو بدات رحلة التيه في صحراء الرمال اللبنانية المتحركة.
ذلك إن “الضابط الصغير” قد نجح، على ما يبدو، في استحداث واقع جديد فرض على اللجنة أن تغير لغتها ومنهجها في تحديد أولويات مهمتها الجليلة.
فلشدما اختلف “توصيف” اللجنة العربية للأزمة اللبنانية في منتصف نيسان عنه في نهاية كانون الثاني، يوم مباشرتها عملها.
كان الموضوع حينذاك: العمل لتمكين اللبنانيين المختلفين، بغير قتال، من تحقيق حد من الوفاق الوطني يسمح بإجراء الانتخابات الرئاسية التي عطلها المعترضون على الاتفاق الأميركي – السوري.
وكان الافتراض إن مهمة “حكومة العماد عون”، في حال سلمنا بشرعية ميلادها في ربع الساعة الأخير من عهد أمين الجميع المطعون في شرعيته بداية وانتهاء، وبرغم إنها ولدت جهيضاً منذ اللحظة الأولى “فنصفها رافض ونصفها مرفوض”.
كان الافتراض إن مهمة “الضابط الصغير” مؤقتة واستثنائية ومحددة تماماً: توفير الأجواء اللازمة لإجراء الانتخابات الرئاسة التي تعذر إجراؤها في موعدها الدستوري قبل 23 أيلول 1988.
لكن “الضابط الصغير” وفي ظل عمل اللجنة، حور في مهمته المؤقتة فجعلها تاريخية وأضفى عليها ما ليس لها أصلاً من أبعاد “قومية” ، فأعلن الحرب على سوريا “لتحرير” أرض لبنان من وجودها العسكري.
ومن أسف فإن اللجنة العربية لم ترفع صوتها بالاعتراض أو بالاحتجاج، أو باتهام العماد عون بالخروج على تعهداته والتزاماته أمامها في تونس، قبل شهر ونصف فقط من الثلاثاء الأسود، يوم ميلاد “التحرير” والتي لم يكن بينها بأي حال إعلان حرب التحرير ضد سوريا،
بل إن اللجنة، وعبر تصريحات شيخها الأخيرة، وبعد لقاءاته المطولة مع وفد “الجبهة اللبنانية” تبدو وكأنها تماشي “الضابط الصغير” ولو إلى حد معين،
فالتصريحات الأخيرة لم تغفل فقط شروط وقف إطلاق النار، بل هي أغفلت أي ذكر للانتخابات الرئاسية، كما إن الشيخ – متأثراً على ما يبدو بـ “الحق” الذي مع “الجبهة” – قد سحب من التداول مشروعه للاصلاح السياسي.
لسنا المعنيين بالدفاع عن سوريا، ولذا لا نتوقف أمام الاتهام الضمني لها، فلسوريا من يحميها أفضل منا ومن اللجنة، بالقطع.
لكننا معنيون بحياتنا في لبنان، وبمستقبل أبنائنا في لبنان، وبهذا المنطق نناقش اللجنة، في بعض ما صدر عنها،
إن وقف النار مطلب الجميع، إلا المستفيد منه،
لكن المطلب الأصلي هو إطفاء النار، والقضاء على أسباب اشتعالها، أو تفجرها القاتل، أصلاً.
ولسنا ممن ينتظر من اللجنة العربية، مع الاحترام الكامل، أن تبدع مشروعاً يحقق أمانينا في الاصلاح السياسي، فتلك مهمتنا المباشرة برعاية اللجنة ومن قرر قيامها،
لكننا ننتظر من اللجنة ونطلب منها بل نطالبها بأن تحمي معنا هوية لبنان العربية،
وليس بالحرب ضد سوريا تتأكد مثل هذه الهوية.
من هنا فإننا نطالب اللجنة العربية ، بألا تكون شاهد زور على قيام إسرائيل جديدة في لبنان،
فالامتيازات ليست ضمانات للطائفة العظمى، المهددة الآن في وجودها ومصيرها ذاته، شأنها شأن سائر اللبنانيين،
والحماية الأجنبية الموروثة والمستمرة، بهذه الصيغة أو تلك، لا تنشئ أوطاناً،
والهيمنة باسم طائفة أو فئة أو عشيرة أو عائلة أو جهاز على مجموع الشعب لا تسمح بوجود مواطنين متساوين لكل منهم بحسب كفاءته وعلى كل منهم واجبه إزاء الوطن وقضاياه العادلةز
اللهم اجعل كلامنا خفيفاً على الشيخ صباح ومن معه،
ويمكنهم، إن شاؤوا، اعتباره “تخاريف رمضانية”،
أو يمكنهم اعتباره هذياناً مبعثه الحمى التي نشر نارها فينا “الضابط الصغير” بحروبه التي أعلنها ضد العالم جميعاً… باسم تحرير القصر الجمهوري واستخلاصه لنفسه حتى لو ذهبت الجمهورية – مع شعبها – إلى الجحيم!
ومن ذلك الجحيم نكتب، يا الشيخ صباح!
بحث
Subscribe to Updates
Get the latest creative news from FooBar about art, design and business.
المقالات ذات الصلة
© 2024 جميع الحقوق محفوظة – طلال سلمان