نقشت بغداد بدمها، أمس، أسماء جورج بوش وصدام حسين وبعض أخوته – الأعداء من سلاطين العرب، جنباً إلى جنب مع أسماء قتلتها الأقدمين ومنهم تيمورلنك وهو لاكو وسائر السفاحين من الذين شربوا مع الدم الحبر، وحولوا دجلة إلى مقبرة للكتب واغتالوا إنجازات العقل الإنساني ودمروا عاصمة الحضارة، في عصرها.
تيمورلنك بخيله وجنده الآتين من قاع التخلف، وجورج بوش بقلاعه الطائرة وصواريخه المجنحة وآخر مستحضرات القتل الجماعي بأرقى ما توصل إليه العقل الإنساني: الكومبيوتر وأشعة اللايزر ومنتجع كمب ديفيد!
أما صدام حسينفهو حصيلة جمع أسوأ ما في المذكورين أعلاه، مجتمعين!
لكنها بغدادنا هذه التي يتناوب هؤلاء على اكل لحمها نيئاً.
بغداد أبي جعفر المنصور وهارون الرشيد والأمين والمأمون والإمام جعفر الصادق وتلك الكوكبة من الشعراء والمفكرين والكتاب والعلماء والمترجمين الذين أضافوا إلى قيمة الإنسان، في كلأرض، والذين لولاهم لبقيت معظم بقاع الأرض غارقة في الظلام الأبدي بما في ذلك بلاد صاروخ كروز والهمبرغر والأنكل جورج بوش.
وما بغداد إلا منارة التاريخ العربي وأحد رموز مجده، وليس ذلك بالأمر المفرح لهؤلاء المثقلين بأحقادهم في الكويت و”المملكة” التي بات شعارها “لا إله إلا الله محمد رسول الله” مطوقاً بنجوم العلم الأميركي وقد حلت محل السيف في وسطه صورة “المحرر” جورج بوش (أو بيل كلينتون)، فهم في قائمة المهزومين مهما ادعوا لأنفسهم انتصارات أعدائهم.
لقد صار “السيف” بتصرف الفاتح الجديد، وها هو يعمله في رقاب العرب والمسلمين، وكلما أباد بعضهم تكفل الباقون بنقده ثرواتهم ومدخرات الأجيال واباحوا له كراماتهم ومقدساتهم لعله يشفق فيستبقيهم فوق عروشهم المتهالكة برغم التعاويذ والتمائم و”توظيف” ذي الجلالة لحفظهم… أليس فرضاً على الرعية – حتى لو حكمت في أقطار أخرى – أن تردد إناء الليل وأطراف النهار: “حفظه الله”؟!
الجرح باتساع السماء التي كانت عربية، ولم تعد عربية،
الجرح باتساع الصحراء التي كانت عربية، ولم تعد عربية
الجرح باتساع البحار التي كانت عربية، ولم تعد عربية،
الجرح مداه مدى الحزن الذي بلا قرار، وعمقه عمق الهزيمة التي بلا نهاية، ووجعه تجاوز حدود الإحساس به “فما لجرح بميت إيلام”!!
تقصف بغداد فيفرحون في جده، ويبتهجون في الكويت، ويأخذهم غلهم على الأمة بعيداً جداً عن الواقع فينسون أو يتناسون إنه كلما ضربت بغداد زال بعض السبب في وجود الكويت وأعيد النظر في أهلية “حفظه الله” للاستمرار في حكم مملكة الصمت الأبيض كالموت، والذهب الأسود كضمير ملك!!
… وصدام يدعو الجيش الذي أهلكه في الحروب الخطأ، في المكان والزمان والهدف، إلى الرد، وهو لم يعد يملك غير ما يكفي لحراسة مخابئه السرية وتأمينه ضد ضحاياه – الملايين!
السماء العربية مفتوحة لطائرات الموت الأميركية، لصواريخ التدمير الأميركية،
والأرض العربية مفتوحة لجيوش الاحتلال الإسرائيلي، كرديف “محلي” لجيوش التحالف الدولي بالقيادة الأميركية،
والمواطن العربي مخير بين أن يقتلع من أرضه، لأنه عاجز عن القتال فيها دفاعاً عنها، وبين أن يقتل فيها بغير قتال لأن قيادته تخاف منه فتبقيه أعزل وسجيناً مغلول الفكر واليد واللسان،
… وألمانيا تطارد السفن العابرة في اتجاه الشاطئ العربي وتخضعها لتفتيش دقيق، خشية أن يكون في حمولتها بعض السلاح “العتيق” أو بعض الذخائر المتخلفة عن الحرب العالمية الثانية،
إنها الحرب المفتوحة على العرب كلهم، بذريعة صدام حسين مرة أخرى،
لكن هؤلاء “المحررين الجدد” هم أحرص الناس على سلامة صدام حسين، فبفضله حولوا العرب إلى مثل ذلك الكيس الرملي الذي يتخذه الملاكم أداة لتمارينه وامتحان قوة ضرباته.
بل لقد تحول العرب إلى “عبرة لمن يعتبر”: إذاً أريد تأديب من يفكر في التمرد في أوروبا، مثلاً، ضرب بلد عربي، وإذا أريد تركيع شعب لم يستسلم كلية بعد لإرادة “السيد الاميركي”، في أربع رياح الأرض، دمرت عاصمة عربية، وإذا أريد شطب أفكار “بائدة” مثل التحرر والثورة والاشتراكية والكفاح المسلح والسيادة والعزة والاستقلال أعمل المحتل الإسرائيلي سيفه في رهينته الفلسطيني (أو اللبناني) حتى تسقط آخر راية مقاومة للنظام العالمي الجديد الآتي باسم “حقوق الإنسان” وإشاعة الديموقراطية السياسية وحريات اقتصاد السوق!
إنها الحرب المفتوحة ليس منذ إطلاق “عاصفة الصحراء” في مثل هذا اليوم لعامين مضياً، وبذريعة الرد على صدام حسين ، ولكن قبل ذلك بكثير: في 5 حزيران 1967؟! في 15 أيار 1947؟! في 2 تشرين الثاني 1917؟!
إنها حرب مفتوحة على الجنس العربي،
ولا يبدل من هذه الحقيقة أن يكون بين أدواتها بعض حكام العرب، بل لعل ذلك يؤكدها.
… وصدام حسين باق، لأن دوره لم ينته بعد،
وهو سيبقى حتى يهاجر آخر كويتي من الإمارة التي يحرس الآبار فيها الجند الأميركي مباشرة، وحتى يشهر إفلاس المملكة الأمير “حفظه الله”،
بل لعل بقاءه مطلوب من أجل إتمام الاستسلام العربي وبالشروط الإسرائيلية، وتحت الرعاية الأميركية دائماً.
ففي المحصلة النهائية لا يفعل “التحرير” الأميركي للجزيرة والخليج بتدمير الع راق غير تسهيل المهمة على الإسرائيلي لفرض شروط “سلامه” على أولئك الذين ما زالوا – من العرب – يقاومون، ولو بغريزة حفظ النوع.
إنهم يقصفون “الرشيد”، والطائرات تقلع من قاعدة الأحقاد التركية على الأمة التي أعطتها دفعها وهو الذي منحها “حق” الفتح وجعلها إحدى أعظم الأمبراطوريات في التاريخ.
لكن الرشيد أسير في مخبأ صدام حسين وقد حوله كتبة السلطان إلى فاسق، فاجر، عابث وسفاح مثل حكام هذا الزمان،
وبغداد باقية،
وإلى جهنم تيمورلنك العصر الحديث وأدواته وحلفاؤه جميعاً!
بحث
Subscribe to Updates
Get the latest creative news from FooBar about art, design and business.
What's Hot
المقالات ذات الصلة
© 2025 جميع الحقوق محفوظة – طلال سلمان