يقول الذين حضروا احتفالات مصر بالذكرى المئوية لتأسيس “دار الهلال”، لمنشئها اللبناني جرجي زيدان، أن ختام المسك للبرنامج قد تضمن مغناة “أوبريت” تاريخية كان بين محطاتها صلاح الدين الأيوبين ثم انتفاضة الحجارة التي ما تزال تحاول أن تخرق المستحيل فتستمر.
ويقول هؤلاء أن حضور المغناة قد استقبلوا بالهتاف وقوفاً والتصفيق الحاد، ذكر صلاح الدين وحطين، ثم الإشارة إلى الانتفاضة، متجاوزين الإطار “الرسمي”، ممثلاً بكامب ديفيد ومقتضياته كما بوجود رئيس الدولة، حسني مبارك وأركانه، وموجبات الرصانة البروتوكولية وجليد الطقوس الملكية.
… أما القادمون من الأرض الفلسطينية المحتلة، أو المتصلون بمن فيها، فيتخوفون من مذابح شنيعة ستجلل بالدم التوقيع على الاتفاق المنتظر إبرامه بين الكيان الصهيوني والمفاوضين الفلسطينيين الذين يتظللون مباركة منظمة التحرير، وتحريض قيادتها لإنجاز ما لا بد من إنجازه في أسرع وقت ممكن، وقبل أن يتعاظم الرفض فيستحيل تمري الموافقة على العرض الإسرائيلي المهين.
يقول هؤلاء: إن الملتزمين بحركة “فتح” سيكونون في جانب والمناصرين للتنظيمات العشرة، وفيها “حماس” و”الشعبية” و”الديموقراطية” و”القيادة العامة” و”النضال” الخ، سيكونون في الجانب الآخر، وستقع المواجهة ولسوف تستعر بفعل التحريض الإسرائيلي المباشر، وسيمتد خيط الدم حتى آخر بيت فلسطيني.
ويقول هؤلاء: إن الأكثرية الساحقة من الفلسطينيين تشعر إنها قد استغفلت، وإنها قد سلبت حقوقها وأرضها، عن طريق إيهامها بأن “التنازلات الصغيرة” ضرورة للحصول على “المكاسب الكبيرة” وإنها قد سكتت عن التنازلات مكرهة على أمل أن تأتي النتائج محققة للحد الأدنى من الطموح الفلسطيني إلى البقاء في الأرض مع قدر من الحكم الذاتي القابل للتطور بحيث يتم الربط الفعلي بين الأرض والسكان، بمن فيهم أهل الشتات.
يضيف هؤلاء : إن سياق التنازلات عبر جولات المفاوضات قد انتهى إلى تذويب فلسطين، وإلى تحول أهلها إلى تجمعات بشرية بلا هوية ولا قضية، بحيث يمكن التعامل معهم وكأنهم جالية أجنبية لها حق “التمتع” بجنسية أخرى (غير الإسرائيلية) ولكن بغير أن يترتب على ذلك أية حقوق في الأرض،بحيث يستحيل تحولها مستقبلاً إلى “مشروع دولة”.
ويروي بعض العائدين من تونس وقائع جرت في الاجتماع الأخير للمجلس الثوري لحركة فتح، هناك فيقولون إن ياسر عرفات قد افتتح الاجتماع بخطاب فخم العبارة عن التمسك بالحقوق الوطنية ومنها الأرض، مشيراً على مسلك الوفد المفاوض باعتباره جزءاً من التكتيك الضروري لتحقيق الهدف السامي، فلما جاء دور “أبو مازن –محمود عباس” وهو المشرف الفعلي على المفاوضات قال بوضوح مطلق: “من واجبنا ألا نكذب عليكم، وأن نصارحكم بالحقيقة… والحقيقة إننا إنما نحاول فقط تحسين صورة النتائج التي نعرف إنها غير مرضية، وإنها تكاد تكون في مستوى الخيانة الوطنية، ولكنها أقصى ما أمكننا الحصول عليه. إن السقف واطئ، أصلاً، ونحن نفاوض تحت هذا السطح المفروض، وليست لدينا القدرة على رفعه، لذا فنحن نحاول فقط ألا ينزل أكثر فنفطس تحته. لكن علينا أن نتخلص من الأوهام، وأن نكون واقعيين ، فما سوف نتوصل إليه سيكون مرفوضاً ولا بد لنا، مع ذلك ، أن ندافع عنه.
وفي الرواية إن عرفات قد اهتاج وتوجه إلى “أبو مازن” يسأله باستنكار: هل تتهمني بالكذب؟! هل تشكك في وطنيتي؟!
ورد “أبو مازن” بكثير من الرصانة: – لا أتهمك يا أخ أبو عمار، لكن علينا أن نصارح هؤلاء الجالسين هنا، فهم القيادة، وما قلته أنت ليس صحيحاً، والصحيح إننا سنتنازل عن كثير مما كنا نعتبره جوهرياً، فلماذا المغالطة أو المخادعة أو التمويه؟! لنتحمل مسؤوليتنا ولنواجه الناس بالحقيقة، فهذا أقصى ما استطعنا تحصيله، والسلام…”
ستكون فلسطين “الأرض” بلا فلسطينيين،
وسيكون المتمسكون بهويتهم الفلسطينية من أهل الشتات المتناثرين في أربع رياح الأرض، خارج فلسطي!!
وسيظهر “اهل الخارج” وكأنهم أعظم تصلباً من “أهل الداخل”، فيبدو الذين ولدوا خارج فلسطين وكأنهم فلسطينيون طبيعيون بينما فلسطينيو الداخل متساهلون إلى حد التنازل عن هويتهم الفلسطينية.
ولسوف يقع الصدام بين “الفلسطينيين” من أهل الداخل والمتساهلين بشأن هويتهم الفلسطينية، معتبرين أن “الحكم الإداري” يقربهم من “الحكم الذاتي” الذي سيقودهم في النهاية إلى الدولة الفلسطينية.
لهذه الأسباب تحاول قيادة المنظمة أن تفتعل خلافاً مع سوريا، فتتهمها بالتفرد وبالتخلي عن الفلسطينيين، في محاولة لتبرير تفردها هي وقبولها بما لا يمكن التساهل في قبوله في ظروف عادية.
مرة أخرى يريد ياسر عرفات، ومن معه، أن يوجهوا تهمة التخلي عن فلسطين “وبيع” الفلسطينيين، إلى العرب خارجها، مدغدغاً بذلك الشوفينية أو العنصرية الفلسطينية، ناثراً دم الفلسطينيين على العرب جميعاً، باعتبارها الوسيلة الوحيدة لتمويه الانحراف أو تبريره وتبرئة قيادة منظمة التحرير من التهمة الفظيعة التي يمكن أن تدينها فتنهيها بعد تجريمها بالتفريط وما هو أخطر.
كثيرون يرون أن المخطط الأميركي (الإسرائيلي) الجديد يحقق نجاحات تفوق التوقع، وإن كثيراً من نتائجه جاءت قبل الموعد المفترض لها!
والمخطط يقوم على بنود خطيرة لشدة ما هي بسيطة:
1 – يفترض أن تؤدي المفاوضات الثنائية المباشرة إلى مجموعة من الفتن الداخلية والحروب الأهلية التي تعطل نتائجها، في ما لو انتهت إلى نتائج.
2 – أول تلك الفتن ما يفترض أن يقع بين فلسطينيي الداخل، إذ ينقسمون إلى مؤيد للمفاوضات، ومن ثم لنتائجها كائنة ما كانت، وإلى معارض لها بالمطلق.
3 – يفترض أن تمتد الفتنة إلى فلسطينيي الخارج، فيقتتلون في ما بينهم (كما في صيدا الآن)، وتحدث قطيعة بينهم وبين فلسطينيي الداخل، خصوصاً وإن الحكم الإداري (أو حتى الحكم الذاتي) يقطع صلة فلسطينيي الخارج بفلسطين.
4 – بالمقابل يفترض أن تؤدي المفاوضات التي لا يمكن أن تنتهي بنتائج مقبولة عربياً، إلى فتن، في داخل كل دولة عربية معنية، يواكبها قتال مع الفلسطينيين فيها.
5 – ويفترض أن تذر الفتنة قرنها فتتسع دائرتها لتشمل بعد الفتن والحروب العربية – العربية، حروباً عربية – إسلامية، كالتي تجري تحضير المسرح لها سواء بين بعض الأقطار العربية وتركيا، أو بين أقطار عربية أخرى وإيران.
6 – أما الحروب الإسلامية – الغسلامية فقد سبقت موعدها واستعرت وتعالى لهيبها بحيث يتعذر على سعادة الخير إطفاؤه.
… وهذه كلها أعذار لإغراق كل من يرغب في أن ينحرف مع اطمئنان إلى أنه سيكون بمنجاة من العقاب.
لكن الشرط الأساسي لتمرير هذه الأعذار يتمثل في اتهام الطرف العربي الأقوى (والأصلب) بالتفريط والتفرد (وهو هنا السوري)، ومن هنا هذه الحملة على سوريا التي تطلقها إسرائيل وتواكبها الشائعات الأميركية وتمهد لها بالقصف البعيد المدى قيادة منظمة التحرير الفلسطينية.
“- لقد انحرفنا، لأن الآخرين سبقونا إلى الانحراف والتفريط، ولأنهم باعونا من أجل تحسين الشروط الخاصة بهم. لقد وجدت نفسي وحيداً ومستضعفاً فقبلت بالمعروض حتى لا يضيع كل شيء. وكالعادة، لقد باعنا العرب، ونحن قد تعودنا هذا، فهم لطالما باعونا وتركونا وحدنا، وبنوا دولهم على حسابنا”..
هذه هي خلاصة المنطق الذي تروجه الآن قيادة منظمة التحرير، وهو المنطق المبرر للفتنة الداخلية كما للحروب مع المحيط العربي.
… وما حاجة الإسرائيلي، بعد هذا، إلى الحرب، سواء على الجبهات أو داخل قاعات التفاوض في واشنطن؟!
هل يمر مثل هذا المخطط؟!
أغلب الظن أنه لن يمر، لأنه مكشوف، والكل على علم به، وباستهدافاته.
لكن المفاوض الفلسطيني قد تورط، في ما يبدو، بحيث بات يستحيل عليه التراجع، فطفق يبحث عن تغطية التفريط بالفتنة، وهي كلما اتسعت وتعالت ألسنة نيرانها غطته بدخانها وبالدماء التي سوف تسيل على الجبهة المضادة لتحرير فلسطين.
مع ذلك، ما زالت هناك بقية أمل في أن تنتصر روح الانتفاضة لنفسها، فتمنع الفتنة بإسقاط التفريط.
والوقت ضيق جداً،
فالهدية يجب أن تقدم لجورج بوش، حتى لو كان شبه مؤكد أنه ذاهب إلى التقاعد.
وأبو عمار إذا قال فعل!
بحث
Subscribe to Updates
Get the latest creative news from FooBar about art, design and business.
المقالات ذات الصلة
© 2024 جميع الحقوق محفوظة – طلال سلمان