نشر في جريدة “السفير” بتاريخ 14 حزيران 1991
… وحين جاء موعد الامتحان، يوم يُكرم المرء أو يُهان، وجدت الحكومة نفسها وحيدة في مواجهة سيل من المشكلات الاقتصادية – الاجتماعية التي لا تملك إزاءها غير الاستهوال والاستهجان واللجوء إلى صلاة الاستسقاء!
لقد فعل “القرار الكبير” فعله وحقق ما حقق من “إنجاز تاريخي” بدءاً بالاصلاحات الدستورية وخلع عون وانتهاء بحل الميليشيات وتعيين النواب والمعاهدة مع سوريا،
لكن “القرار الدولي – العربي” الكبير لم يوظف سحره عند الحكومة الثلاثينية لكي تستعين به على الأزمات الاجتماعية – الاقتصادية الخانقة الناجمة عن دهر الحرب، والتي تبدو في ظاهرها “محلية”، ولكن حلولها تتجاوز قدرات دولة قائمة وراسخة فكيف بدولة قيد التأسيس… وسط الركام؟!
وفي غياب “السحر” من أين تجيء الحلول؟!
وإذا كانت الولايات المتحدة تستمر في معاقبة لبنان اقتصادياً فتمنع عنه المساعدات والقروض والهبات، ولا تفرج عن مشترياته العسكرية مدفوعة الثمن قديماً إلا إذا سدد بعض أقساط الدين التافه المتبقية من عهد أمين الجميل السيء السمعة.
… وإذا كانت دول السوق الأوروبية المشتركة تتلطى تارة وراء الموقف الفرنسي المتمترس خلف ميشال عون، وتارة وراء حرصها على الاطمئنان إلى استقرار الأوضاع في لبنان، وطوراً وراء حرصها على اطمئنان إسرائيل إلى “سلامة حدودها الشمالية” الذي لا يكون إلا… برمي الفلسطينيين في البحر ومعهم سلاحهم النووي الذي يمنع عن شامير هناءة النوم!!
… وإذا كانت المملكة العربية السعودية، وهي الأغنى والأوفر دخلاً والأسخى (على الغرب) قد امتنعت حتى هذه اللحظة عن تقديم “ما يغني عن جوع”،
… وإذا كانت أقطار الخليج قد التزمت بدورها، وكالعادة، بالقرار السعودي الملتزم على الدوام بالقرار الأميركي،
فمن أين إذن سيأتي المال، ومن سيوفر مستلزمات وقوف الدولة على قدميها، لكي تحقق المطلوب منها عربياً وإقليمياً ودولياً؟!
ليس سراً، لا في الداخل ولا في الخارج، إن خزينة الدولة شبه خاوية، وإن الاحتياطي مستنفد جله بالدين الداخلي الكبير (ومعه الدين الخارجي المحدود)،
وليس سراً إن مستلزمات إعادة بناء البنية التحتية بالحد الأدنى من التقديرات تصل إلى حدود العشرة مليارات دولار،
هذا قبل أن يجيء حديث الزيادات (الضرورية) في المرتبات والأجور لموظفي القطاع العام، ومن غير أن نذكر النفقات العسكرية من تجهيز وتسليح وتدريب الخ.
فمن يحل هذه المعضلة وكيف؟!
إن الحكومة عاجزة، وهي لا تماري أو تحاول إخفاء هذه الحقيقة،
وتحسين الموارد أسطورة، فهي مهما تحسنت لن تفي بأقل القليل من معدلات الارتفاع الطبيعي في الأجور والرواتب نتيجة للتضخم، ويبقى العجز على حاله بل يزيد حتماً بالتراكم.
ومع إن هذه الحكومة ليست “شعبية” وليست لها “جاذبية” وليست بأعضائها فوق الشبهات، إلا أن عجزها موضوعي لا ذاتي، وبالتالي فالعلل لن تذهب بذهابها.
إن الأزمة الاقتصادية – الاجتماعية خطيرة وهي ستبدأ بإلقاء ظلها الثقيل على مسيرة الحكم يوماً بعد يوم، وستربكه أكثر فأكثر، وقد تعطل قدرته المحدودة أصلاً على الإنجاز.
ولعل بعض القوى الدولية (وبينها فرنسا، وربما الفاتيكان) والإقليمية (إسرائيل) المعترضة على اتفاق الطائف، وعلى الحل عموماً واستعادة لبنان عافيته واستقراره، تراهن على تجدد الاضطراب داخلياً ولأسباب بحت اجتماعية – اقتصادية في ظاهرها، ولكن استثمارها سياسياً أمر ممكن ومتيسر ومتاح لأي قادر على استثماره.
وواضح إن السياسة الأميركية تقوم على تبرئة نفسها ورمي المسؤولية على الطرف العربي الملتزم تنفيذ اتفاق الطائف في لبنان، أي السوري، مكتفية بإصدار بيانات “مبدئية” تعيد وتكرر فيها إنها مع الطائف ولكن من دون أن تمد يدها للمساعدة في أي أمر،
وينقل بعض العائدين من واشنطن إنها أرسلت بتعليمات صريحة وواضحة إلى سفيريها في بيروت ودمشق بالامتناع عن التدخل في أي أمر لبناني، وترك المسؤولية على عاتق السوري وحده مع التشديد على “إننا لسنا شركاء له في الأمور اللبنانية الداخلية”.
ويضيف هؤلاء إن واشنطن تتمنى أن ترى السوري غارقاً في المشكلات الداخلية، التي ستأتي مباشرة في أعقاب “نصره السياسي” في لبنان، وإنها عندئذ ستتدخل للحول محله، وإن موقفها من تنفيذ القرار 425 يندرج في هذا السياق.
ويؤكد هؤلاء إن إلحاح واشنطن على السلطة اللبنانية بضرورة نزع السلاح الفلسطيني يستهدف دفعها إلى توريط السلطة (ومن خلفها سوريا) في صدام مع الفلسطيني ستكون أضراره فادحة على مسيرة السلام وعلى مستقبل المعاهدة بل والدور السوري برمته في لبنان.
هل من الممكن الفصل بين السياسي والاقتصادي – الاجتماعي؟!
وهل من الممكن الفصل بين مسألة لبنان و”أزمة الشرق الأوسط” إذا كانت واشنطن وتل أبيب هما أكثر الأطراف إلحاحاً على توكيد الربط بينهما؟!
وهل لدى الحكم وسيلة لعلاج هذه المعضلات التي تتجاوز قدراته؟1
وهل الحكم وحده هو المعني أم الأطراف جميعاً، أم إن تلك تتربص به لتستغل فشله ثم تتقدم إلى الواجهة بلباس “المنقذ” من الحكم ومنجزاته في “الحقبة السورية”؟!
هذا ما ستكشفه الأسابيع القليلة المقبلة لبيروت كما لدمشق كما لسائر العواصم.