بدأ بيل كلينتون رحلته داخل التاريخ بالدعوة إلى الاحتفال بالتاريخ.
هذا الرجل البلا تاريخ والآتي من بلاد ما بعد التاريخ، وصل محمولاً على وهم حقيقي بأنه سيسهم في صنع تاريخ جديد لهذه المنطقة التي تكاد لا تعرف لها مكاناً أو هوية أو دوراً خارج التاريخ.
لا مجال للخطأ أو للمجاملة ، فالخطوة الأولى تبدأ بالمحطة الأولى لانطلاق التاريخ – الضد… وهكذا توقف الموكب الفخم وأحنى “الرئيس” رأسه احتراماً للشهيد الأول في ضريحه المهيب، بينما المعاهدة الأولى لم تعد يتيمة أو زحيدة ومستضعفة. لفتة وفاء لا بد منها أمام الرجل الذي حاول أن يلوي عنق التاريخ فقتله التاريخ. وهي لفتة يحتاجها ياسر عرفات لكي يتوغل أكثر من أتون الحرب ضد “شبابه” و”بداياته الأولى” التي أنجبت ورثته المحتملين، ولكي لا ينبث الوميض القاتل “حسني مبارك” الفلسطيني. يكفي سقوط أنور سادات واحد.
كذلك فهي لفتة قد تنفع في تحصين الملك ليس فقط في مواجهة “حماس” وسائر حلفاء الاضطرار ممن “ينتمون إلى الماضي وليس إلى المستقبل”، كما وصفهم كلينتون، بل أساساً في مواجهة أولئك الذين “وُرثوا” عرش الجد الأكبر في الحجاز، مع أنه كان يفترض نفسه الحليف والشريك وينام على الوعد بأن يستعيد مع الأرض الخلافة التي غصبها “العثماني” دهوراً وجاء “الغربي” ليعيد الحق إلى أهله من القيمين على الدين الحنيف.
في العقبة، مرة أخرى، وقف “الهاشمي” ينتظر قائد الحملة الغربية الجديدة ليكون دليلها إلى السلام. لقد أنجز “حروبه” جميعاً وآن له أن يطمئن على عرشه الذي عاش دائماً فوق فوهة بركان، ولأنه لا يريد أن يتجرع مرارات تجربة الجد الأكبر، ولا أن ينتهي نهاية الجد الأصغر، فقد احتاط بالاحتفال المهيب: كل الدنيا تشهد على أصحاب الوعد، ورئيس الدولة الأعظم يقدم الضمان خطياً…
من العقبة على البحر الأحمر، إلى وادي عربة الذي يمتد بينها وبين البحر الميت بطول مائة وسبعين كيلومتراً، كان التاريخ الشاهد والشهيد.
وبرغم أن التشريفات الملكية قد أغفلت قصداً دعوة بعض من صنعوا تاريخ تلك الأرض وأتاحوا للحفيد التائه أن يكون ملكاً عليها، فإن جمهورة من الذين توسدوا تاريخ الأرض بين مؤتة والأغوار وصولاً على اليرموك، كانوا يتابعون بصمتهم الأبدي المدوي وقائع الاحتفال بالتاريخ، كما أراده الرئيس الأميركي الضيف الطارئ على التاريخ.
ففي تلك الأرض يرقد بعض الذين صنعوا تاريخ كل الأرض في زمن مضى، وليس من حق من يحكم باسم انتسابه إليهم أن ينساهم، اليوم،
هل يسقط سهواً اسم جعفر بن أبي طالب وعنوانه في مؤته؟!
وهل يمكن تجاوز أسماء رجال مثل أبي عبيدة بن الجراح، وهو في “فحل” بغور بيسان، وشرحبيل بن حسنة، وهو في الغور الآخر في “الكريمة”؟! ومعاذ بن جبلى الخزرجي الأنصاري؟!
وهل يغتفر لمن يحكم بقوة الذاكرة أن ينسى رجالاً “يعيشون” من حوله وفيهم زيد بن حارثة، وعبد الله بن رواحة، وعمرو بن العاص، وضرار بن الأزور، والحارث بن عمير الأزدي، وسعيد بن الحارث بن قيس السهمي، والحارث بن الحارث السهمي، وبعض أبناء خالد بن الوليد؟!
هل يستطيع “هاشمي” أن يتجاهل هذا الموكب من صحابة رسول الله الذين توسدوا تراب الطريق بين القبلتين؟!
ثقيل هو حمل التاريخ، ومستحيل الهرب منه أو تجاهله بالنسيان.
وعندما وقف بيل كلينتون شاهداً بين المتعاهدين لم يجد بداً من استذكار تاريخهما الشخصي: فإذا رابين محارب أمضى عمره يقاتل من أجل دولة لشعبه ثم من أجل السلام لشعبه، بينما الآخر، الملك، أمضى عمره يقاتل ضد التاريخ انتقاماً لجده من “شعبه”. ويقيم دولة لعرشه جيشها أهم من شعبها بما لا يقاس، والعرش منفصل عن الأرض: تذهب فيبقى، تتسع أو تضيق فلا يتأثر أو يحزن. الملوك لا يحزنون. الملوك يحكمون فقط.
الجد أهم من الشعب. أين، إذاً، باقي الجديد، ولماذا لم يستذكر إلا واحداً، ذاك الذي أراد أن يسبق التاريخ فدخله ثم لم يخرج منه أبداً.
“الأرض المحرمة ستصير وطناً للجميع، ووادي الألغام سيصير وادي الأحلام، والصحراء سوف تزهر وروداً…”
جميل هو الشعر التاريخي في وادي عربة،
لقد جاء عصر الطرب. إنه السلام، فلا عداوة ولا أعداء بعد اليوم.
لم يعد للعدو عنوان. صار العنوان مشاعاً يتسع لجميع الضحايا والأحقاد، الأحلام المجهضة والآمال المنكسرة، وكذلك لصورة الغد المذهبة.
لم يعد لأجدادك عنوان. تعدد الساكنون واختلط الطارئ بالأصيل والوافد بالمقيم والشهيد بالقاتل وصاحب الرسالة بالمستثمر والسمسار والسائح بالمروج، حتى لم يعد للأرض صاحب… فجاء السلام.
ليس بين المحتفلين واحد يملك بوصة من تلك الأرض.
ومن حقهم أن يحتفلوا: فهم بالسيف أخذوها ونالوا معها السلام!!
لكن السلام يحمل وعوداً بالكثير من الحروب!
في القاهرة أعلن كلينتون، بتأييد من حسني مبارك، أن عرفات وعده بأن يمضي في حربه ضد “الإرهابيين”، رفاق سلاحه القدامى، حتى النهاية، مؤكداً أنه لن يتردد ولن يضعف حتى القضاء الكامل عليهم ليستطيع من بعد أن يبني “سلام الشجعان” مع إسرائيل.
وحرب القاهرة متفوحة، وأيضاً طلباً لسلام الشجعان ذاته،
أما الملك فقد تعهد باستئصال شأفة المعارضين جميعاً ولاسيما منهم أولئك الذين يزعمون أنهم يقاتلون باسم الدين.
للعدو عناوين جديدة، وكلها في الداخل.
السلام لمن في الخارج ليس بالضرورة سلاماً للداخل.
والحرب مع “الخارج” مستحيلة، أما الحرب على الداخل فأمرها يسير وهين… وها هم الجنرالات الذين لم يحاربوا قط ضد “الخارج” يمدون أيديهم إلى الحلفاء الجدد ، متعاهدين على خوض حرب الداخل معاً وحتى النهاية.
… ودمشق تتحصن بتاريخها وهي تنتظر ضيفها الآتي مع الصباح ليحدثها عن السلام، بعدما شهد على إنجاز فصل جديد من فصوله.
هي تعرف أن “السلام” كان خارج الاحتفال الملكي.
وهي لا تنوي الذهاب إلى الحرب في الخارج، ولكنها بالتأكيد لن تشارك في الحروب التي تحضر ضد الداخل… أي ضد التاريخ، بالماضي منه والحاضر والمستقبل.
ودمشق لا يمكن أن تكون خارج التاريخ، فهي عنوانه الأول.
بحث
Subscribe to Updates
Get the latest creative news from FooBar about art, design and business.
المقالات ذات الصلة
© 2024 جميع الحقوق محفوظة – طلال سلمان