لا يتعظ عربي بتجربة عربي آخر، حتى ولو كانت جراحها تنزف الحقيقة المرة ساخنة إلى حد الإيلام..
فبعد التجربة القاسية التي عاشتها وما تزال تعيشها مصر، في ظل الحل المنفرد الذي حل بعض الأزمات لإسرائيل في حين فاقم أزمات مصر الوطنية والاقتصادية والاجتماعية.
وبعد التجربة التي تطل ملامحها كالحة من غزة وأريحا، والتي تكرر الدرس إياه: تعطي إسرائيل حلولاً لبعض مشكلاتها السياسية والأمنية والاقتصادية، في حين تفاقم المشكلات الفلسطينية، وعلى مختلف الأصعدة،
بعد تينك التجربتين التعيستين، ها هو الأردن يحث خطاه فجأة ومن دون سابق إنذار، على درب الصلح المنفرد،
بل إنه يندفع إلى الحل الذي لا يحل شيئاً، إلا لإسرائيل، بعدما أوحى لشريكيه “الاضطراريين” السوري واللبناني على امتداد الشهور الأخيرة، وبكل وسائل الإيضاح المتاحة، أنه لن يتخلى عن رفقة السلاح معهما لأسباب اضطرارية وعملية، إذ لا أمل له بحل من دونهما وفي غيبتهما… وربما على حسابهما.
هنا صفحات من تجربة شخصية عاشها أحد رموز الكفاءة الفلسطينية في غزة “المحررة” وأريحا وأنحاء أخرى من فلسطين المحتلة…
وهي تجربة ناطقة بأفصح مما يمكن لأي معلق أن يستنتجه من النصوص أو من التصريحات الرسمية، كائناً من كان مصدرها.
ولنقرأ معاً هذه الرحلة داخل المجهول الفلسطيني عشية وصول أول وفد مفاوض إسرائيلي إلى عمان لإنجاز الصلح المنفرد الثالث… وعلى حساب العرب مجتمعين:
ليس من رأى كمن سمع، ولذلك تسبق الدمعة كلمات العائد من “غزة المحررة”، ومن “أريحا التي يلبسونها ثوب العاصمة”، ومن فلسطين التي تتشطر حتى لتكاد تندثر:
“- الحزن، ولا شيء إلا الحزن العميق، حزن افتقاد العمر والوطن، القضية والحلم. كنت أعرف أنني لا أذهب إلى عرس التحرير، ولكن ما رأيته، ما عشته، ما سمعته، ما استخلصته تجاوز أسوأ تقديراتي وأبأس توقعاتي..
“هو الضياع الكامل. هو شيء من الجنون المختلط بالكثير من الخيبة، هو اختلاط الأمور حتى لا تعرف لها بداية أو سياقاً أو نهاية. هو التهالك والتهافت بحيث يصعب توصيف المشهد: لا تعرف إن كانت غزة قد تحررت فعلاً، فكل الادعاءات تسقط على عتبة الحقيقة… أن أربعين في المئة من مساحتها ما تزال محتلة. فبذريعة المستوطنات وحمايتها ما تزال أخصب الأراضي في غزة، وبعض أجمل شواطئها مرتعاً للمستوطنين وحصوناً لجيش الدفاع الإسرائيلي بدباباته ومدفعيته وجنوده.
“الطرافة الوحيدة التي صادفناها تمثلت في أولئك المستوطنين يتنزهون على الشاطئ بملابس السباحة وهم مدججون بالسلاح. فهم لا يتركون شيئاً للمصادفة.
“بالمقابل، كان أبناء غزة كلهم في الشارع مع “شرطة التحرير” يمارسون السلطة الوحيدة التي أتاحتها لهم الاتفاقات: سلطة توجيه السير… تصور: عشرات بل مئات من المواطنين ورجال الشرطة الحائرين والذين يستشعرون قدراً من الغربة، يتنافسون على إعطاء الإشارات المتناقضة للسائقين في سياراتهم، بما يستولد فوضى لا حصر لها.
“لكأنما “التحرير” قد تسبب في إضاعة الاتجاه.
“أو لكأنما التنافس على ممارسة السلطة الوحيدة المتاحة والمرمية في الشارع – قد أظهر كم هي كاريكاتورية – وسخيفة ومفرغة من أي مضمون…
“لا أحد يعرف موقعه أو دوره أو مسؤوليته. الآون من الخارج خارج، والذين في الداخل يستشعرون شيئاً من الغضاضة: كنا ننتظر المحررين، أما الموظفون والشرطة وعمال البلدية فبوسعنا تأمينهم من هنا… لا تحتاج هذه الوظائف الخطيرة إلى خبراء من الخارج…
“تفتش عن منظمة التحرير الفلسطينية فلا تجد لها أثراً. لقد تبخرت!
“الموجودون ممن كانوا ينضوون تحت لوائهم هم الآن عادوا إلى “فتح” بغير تمويه.
“الآخرون عادوا بدورهم إلى منظماتهم: الشعبية، الديموقراطية، الحزب الشيوعي، فدا. ولكل منظمة خطابها وبرنامجها وقضيتها، وأكاد أقول فلسطينهلاا.
“الجدران لوحة إعلانات. كل الجدران مطموسة حجارتها بالافتات والشعارات والكتابات المؤكدة للتمايز والانفراد بالقضية. لا أحد يسلم بشعار الآخر، أو يرتضي بأن يترك شبراً من الفراغ، لا فرق بين جدار بين أو جدار دكان أو مدرسة أو خرابة.
“الكتابات تعكس الانقسام أكثر مما تعكس وحدة القضية، وتعكس الضياع والقلق وافتقاد الطريق.
“أين النضال المشترك؟ أين الدم المراق؟! أين فلسطين؟!
“المفارقة مخيفة ومفجعة ولا تترك مجالاً لأية أوهام حول المستقبل: ثمة “مجتمعان” سيتواجهان الآن، بغير الصيغة التي حكمت المواجهة بين الفلسطينيين والإسرائيليين حتى اليوم. واحتمالات النجاح تكاد تكون معدومة فلا تكافؤ في الفرص ولا تناسب في القدرات. هم في “دولتهم” القوية، المنيعة، المتقدمة، المنضبطة، بنيتها التحتية كأكمل ما يكون، الصناعة متقدمة وكذلك الزراعة… أما مجتمعنا فتحكمه الفوضى والضياع وافتقاد الرؤية، هذا قبل الفقر والتعاسة والبطالة والبؤس الشامل، لا أحد في مكانه، ولا أحد يملك تصوراً عن غده.
“الأخطر أن القيادة التي كانت على الدوام فردية لا تشرك أحداً لا في الرأي ولا في القرار، تمارس أبشع أنواع فرديتها الآن… وتمارسها دون أية معرفة، وبالتالي، دون مراعاة للواقع ودون أي حرص على الناس وحقوقهم. إنها تقرر من تونس ما يتوجب على ابن غزه أن يأكله أو يلبسه، أو ابن أريحا، أو ابن الخليل، وتلغي الناس.
“وبين نتائج هذه السياسة الفردية والمرتجلة والتي لا ترتكز إلى أي علم أو منطق أو معرفة بالواقع أو مراعاة للأصول، “تهشيل” والتسبب في تهجير الكفاءات التي كنا نعقد عليها الآمال في مرحلة بناء السلطة الوطنية. إن الأكفاء يرحلون، يومياً، وبالعشرات، ذاهبين إلى أي مكان. إنهم يرحلون مشدودين باليأس والمرارة والخيبة.
“إن هذا الذي يجري في غزة وأريحا وسائر أنحاء فلسطين المحتلة لا يقع تحت اسم أو تصنيف.
“إننا نجني ثمار التفرد القاتل.
“للمناسبة: لعلنا قد منينا بأعظم الخسائر حين تفردت القيادة بقرارها فقبلت مبدأ المفاوضات السرية. كانت مدريد وسيلتنا للاعتراف بنا ولاستخلاص الحد الأدنى من حقوقنا ما ضمانتنا نحن؟! لا شيء غير الشرعية الدولية وقراراتها والرأي العام العالمي الذي كانت قد أخرجته من خدرله الانتفاضة المجيدة داخل الأرض المحتلة.
“لكننا بمجرد القبول بمبدأ اللقاءات السرية والاتفاقات السرية فقدنا كل ما كان لنا، وخسرنا آخر أرصدتنا. وهكذا انتهينا إلى اتفاق ملتبس ومشبوه، بل فلنقلها صراحة: إلى اتفاق كتبه الإسرائيليون ووقعنا عليه بغير نقاش، وهو اتفاق لا مرجعية له ولا يرتكز إلى الشرعية الدولية فعلياً. إن مرجعيته إسرائيلية مثل نصه.
“لقد خسرنا الداخل بعدما خسرنا الخارج.
“ولا أخفيك أنني أحسست وأنا أخرج من أرض فلسطين، هذه المرة، وكأنني أخرج منها،بل وكأنني أطرد منها. وأخشى أن يكونوا فعلاً بصدد إلغائها تماماً…”
محدثنا واحد من الذين نذروا بعض عمرهم لقضية تحرير فلسطين.
… وهو كفاءة علمية ممتازة، ثم إنه يتمتع بحس واقعي مكين، ولا يتاجر بالكلمات الكبيرة.
ومحدثنا ما زال فلسطينياً وسيبقى، لكنه الآن يفتقد فلسطين.
هل أقسى من أن نخسر، نهائياً، حلم الوطن في اللحظة التي كنت تتوهم أنها لحظة ولادته الحقيقية.
بحث
Subscribe to Updates
Get the latest creative news from FooBar about art, design and business.
What's Hot
المقالات ذات الصلة
© 2024 جميع الحقوق محفوظة – طلال سلمان