لن تنتهي أزمة الحكم مع رحيل حكومة عمر كرامي، فالأزمة باقية ببقاء أسبابها، ومن دواعي الرحيل عجز هذه الحكومة الفضفاضة والرخوة عن مواجهة تلك الأسباب بالحد الأدنى من الكفاءة.
والفشل يتعدى شخص عمر كرامي ليشمل الحكم كله، خصوصاً وإن بعض الحكم كان يقاتل البعض الآخر، والاتهامات علنية والوقائع في الشارع “يدحرجها” المتظاهرون المتعددو الأنواع والأغراض مع الإطارات المعدة للإحراق تعبيراً عن … الغضب.
والنار التي أحرقت منزل وزير المال في صور طالت كل أطراف هذا الحكم، بمن في ذلك من أشعلها… فليس بين هؤلاء بريء، وليس فيهم “مظلوم” حاول فقصّر وعذره في شغب الآخرين عليه.
إن الحكم كله مدان، وخطاياه لا تحصر في هذا أو ذاك من أطرافه، ومن الصعب أن ينجح أحدهم في افتداء نفسه عبر التضحية برفاقه الشركاء.
ويخطئ الرئيس الهراوي إذا اعتبر رحيل حكومة عمر كرامي نصراً شخصياً له، وتقدماً “لخطه” في الحكم على حساب خط آخر كان يناهضه أو يشاغب عليه أو يعطل حركته كذلك يخطئ الرئيس كرامي إذا ما اعتبر رحيله ضربة للدور السوري في لبنان وحصيلة مؤامرة على الخط الوطني والالتزام القومي الخ… فللرحيل الذي تأخر كثيراً عن موعده أسباب أبسط بكثير من ذلك أولها أن الحكومة ميتة طبياً (وشعبياً) منذ بضعة شهور… أقله منذ أيلول الماضي وعشية مؤتمر مدريد وافتتاح المفاوضات الثنائية بالتوقيت الأميركي الملزم.
ومن يعتبر أنه أسقط الحكومة بالضربة الاقتصادية القاضية كان غبياً بحيث أنه ضبط متلبساً وبالجرم المشهود: فهو من أجل التعكير على الدور السوري لم يتورع عن إلحاق أبلغ الأذى شعب لبنان كله… وهكذا أنزل دولاراته إلى الشارع، في حين أن للدولار حاملاً واحداً في بيروت والمنطقة!
كذلك أنزل “أحصنته” إلى الساحة بينما ليس بين “جماعته” فارس واحد يستطيع أن يدعي أن الحل العجائبي في جيبه.
لقد رحلت حكومة لن يبكيها أحد ولن يترحم عليها أحد،
لكن الحكومة المقبلة ستكون عرضة لامتحانات قاسية ليس فقط في المجالات الكثيرة التي قصرت فيها حكومة الأفندي، بل لاسيما في المجال اليتيم الذي تحقق فيه بعض النجاح: السياسة الخارجية،
والمرشحون لوراثة الأفندي، للوهلة الأولى، لا يوحون بكثير من الثقة بحيث تكفي “طلتهم” لإخراج اللبنانيين من المأزق الاقتصادي، ولا هم محصنون بصلابة سياسية خارجياً تؤمن لهم الحماية اللازمة داخلياً.
إن الحكم في أزمة ستمتد طويلاً، وهي باقية بعد رحيل كرامي، بل لعلها ستزداد تعقيداً، وارتكابات الثلاثين هي بعض ظواهر الأزمة وبين دواعي تفاقمها، ولكن أسبابها أعمق من ذلك بكثير.
ولقد أحسن عمر كرامي صنعاً بأن أطلق بيده رصاصة الرحمة على حكومته الميتة والتي تحولت – ومنذ فترة بعيدة – على عبء على أهلها وأصدقائها وهدف سهل يحقق أغراض خصومها وأعداء أهدافها.
إنه بخروجه يسّل انكشاف الوجوه الأخرى، العميقة والباقية، للأزمة.
يقول شارلي شابلن: “إن الممثل الممتاز هو الذي يعرف متى يخرج من المسرح وليس من يعرف متى يظهر فوق خشبته”.
ومع أن عمر كرامي لا يتقن فن التمثيل، ومع أنه تأخر كثيراً في الأخذ بنصيحة ذلك العبقري صاحب التجربة العريرضة، إلا أنه أحسن صنعاً بأن طوى بيديه صفحة تجربته الأولى في “رئاسة مجلس الوزراء”، وقد غلب مرها على حلوها، وضاعت إنجازات أيام الصبا في طيات “مآثر” حقبة الشيخوخة والشلل والعجز عن مواجهة أشباح “المتآمرين” الكثر، وجلهم من أهل البيت.
وأصعب ما في موقف عمر كرامي أنه لا يستطيع أن يسمي خصومه، فبعضهم “أقرب إليه من حبل الوريد”، وبعضهم الآخر يشده إليهم حبل من حرير، والبعض الثالث استهدفه ليصل إلى ما هو أبعد منه منالاً.
وما من شك في أن الحملة على الحكومة قد نسبت إلى عمر كرامي أخطاء غير التي ارتكبها فعلاً، وحملته أوزار من لم يكن يريدهم، لو رجع إليه الخيارن وأثقلت عليه بخطايا هي أخطر من أن يستطيع منعها أو درء ويلاتها.
وبمعزل عن الموبقات التي ارتبطت في ذهن الناس بهذه الحكومة فإن الاستهداف كان يركز على الصح سياسياً فيها متوسلاً خلافات الرؤساء الشخصية وارتكابات بعض الوزراء والقصور العام في الإدارة وافتقاد الرؤيا والحلم في حكم المصادفات القدرية الذي جاء بغير إعداد أو استعداد ولضرورة ملء فراغ الأصيل.
لقد بدأ الحكم وكأنه “بدل عن ضائع”، وانتهى هو ذاته ضائعاً بين موجبات لا يقدر على الوفاء بها وبين قصور لا يستطيع التنصل من مسؤوليته.
ومسؤولية عمر كرامي أنه لم يستطع حماية الإنجاز على مستوى السياسة الخارجية بمسلك منضبط وممارسة نظيفة، فكان أن استنزفت ارتكابات أهل الداخل، أي أهل الحكم، ذلك الرصيد الطيب، والأخطر إنها جعلته سبب الأزمة لتغطي موبقات الرؤساء والكبراء والوزراء والأنجال والأصهار والكناين.
وما كان للضغط الإسرائيلي، مثلاً، وهو طبيعي ومستمر، أن يؤذي سمعة الحكم أو يربكه في الشارع، لو أن أهل الحكم كانوا أنظف كفاً وأكثر عفة وأعظم قدرة على إنجاز المهمة الجليلة بإنقاذ البلاد.
وما كان للمناورات الأميركية أن تنجح في استنزاف رصيد الحكم الوطني لو أن صفقات أهل الحكم كانت أقل، ولو أن سلوكهم كان أسلم، ولو أن ضعفهم أمام الدولار والعقار كان في حدود المعقول.
لذلك بدا وكان أهل الحكم يتحدثون على موجتين مختلفتين: البعض يكشف العورات للتعجيل برحيل الحكومة والخلاص من شغبها وموقفها الثابت من المفاوضات مع العدو الإسرائيلي، والبعض الآخر يتحدث عن مؤامرة بينما هو لا يفتا يمد المتآمرين بالأسلحة اللازمة لتهشيم ما هو وطني من إنجازات هذه الحكومة.
وكان طبيعياً أن يستخدم السلاح الطائفي المسموم، بل وإن تستعاد عدة الحروب المذهبية، وأن تنشأ داخل حرم الحكم معارك طائفية ومذهبية أشد شراسة من تلك التي شهدتها شوارع بيروت وأحيائها وبعض مناطق الجبل والضواحي على امتداد سنوات الحرب الأهلية.
وطبيعي بالتالي أن يعتبر رحيل الحكومة، في بعض جوانبه، سقوطاً لطائفة أو طوائف افتأتت على الطائفة العظمى وصاحبة الحق التاريخي في الحكم،
لا براءة في السياسة، ولا وجود للملائكة لا في دست الحكم ولا في الشارع المعارض بطبعه، المتطلب نتيجة لحاجاته التي لا تنهي،
لذلك يتجاوز الناس اتهام الحكم للمعارضين، أي معارضين، بأنهم متآمرون، وبأن تحركهم ضده إنما هو نزع من التآمر أو تنفيذ المؤامرة، كما يتجاوزون مبالغة المعارضين في اتهام الحكم بالمسؤولية عن كل ما هو مترد وغير مقبول من أوضاعهم، وصولاً إلى التزايد الملفت في كمية الثلوج والتناقص الملحوظ في أمطار ما بعد الثلج، لاسيما “مطر نيسان الذي يحيي الإنسان”.
هذا حيث هناك حدود واضحة للعبة السياسية بأطرافها الأساسية: أي الحكم والمعارضة والبين بين المتربصين بالطرفين.
أما في بلد كلبنان ما بعد الحرب الأهلية وتفرعاتها واتفاق الطائف فقد ضاعت الحدود إذ تعطلت اللعبة السياسية وسيطر الركود وانعدمت الحركة حتى صار الخواء هو السيد في الشارع كما في سرايات الحكام بما في ذلك مجلس النواب.
وبديهي أن حكومة ميتة لا تستطيع ابتداع حياة سياسية جديدة، ولا هي تستطيع إنعاس اقتصاد مدمر، ولا خاصة حماية سياسة خارجية مقاومة تتحدى “الأقوياء” في المنطقة وفي العالم.
والمهم الآن أن يحرص الحكم على استنقاذ الصح القليل الذي كان في الحكومة الراحلة، لا أن يدمره تماماً بحكومة قد تنجح في رفع سعر الليرة ولكن على حساب لبنان كله، إذ تبيعه رخيصاً لمن يقدر على الشراء.
والحكم الأخير على هذه الحكومة سيتم بعد “تشريف” البديل الذهبي!!