قدر علينا، في ظل مرحلة السقوط المريعة التي نعيشها كعرب، أن يصبح أبطال عصرنا إسرائيليين، وأن تصور أقدارنا ومصائرنا وكأنها مرتبطة ارتباطاً مباشراً بمواهبهم وعبقرياتهم وأهوائهم ونزعاتهم وحتى بأمزجتهم ومدى صفائها أو تعكرها.
وحاصرنا ليل اليأس والقنوط والإحباط للذي فرضته علينا أنظمتنا داخل الشقوق والفجوات والشروخ القائمة بين أحزاب دولة العدو… فصرنا أوراقاً انتخابية لبعضها، وبالتحديد للأكثر تطرفاً ضدنا وللأشد حقداً علينا وللأعظم طمعاً في أرضنا ومياهنا وسمائنا وما بينها جميعاً.
وهكذا تزامن وصول مناحم بيغن إلى السلطة مع هرب أنظمتنا إلى الأمام، بعد حرب تشرين، في اتجاه المفاوضات، والاعتراف وتسليم الأوراق جميعاً إلى الولايات المتحدة الأميركية، والسعي إلى “تسوية” تحفظ الأنظمة وتبقيها ولو كان ثمنها الوطن والمصير وحق الحياة.
ولم يكن بيغن ليحكم ويبقى بأكثرية الصوت الواحد، لولا أنه كان يضربنا كلما احتاج مزيداً من التأييد الداخلي، ويضربنا كلما احتاج مزيداً من الدعم الأميركي، ويضربنا كلما احتاج أن يؤكد صورته كبطل تاريخي لشعب الله المختار سيأتي ما لم تستطعه الأوائل فيحقق حلم المشروع الإمبراطوري في أرض الميعاد وما جاورها من بلاد ليس لها من يذود عنها ويحميها ويرد عنها الطامع والدخيل.
بل إن بعض حكامنا كانوا يحرضون بيغن على ضربنا، بين الفينة والأخرى، أما لكي يستمدوا مبرراً لاستمرار وجودهم، وأما لطمس القضايا الوطنية والاجتماعية المثارة، وأما لتوفير ذريعة العجز لإلقاء السلاح وقرع جرس الانصراف للمناضلين.. وفي كل الحالات للتعجيل بقدوم عصر “السلام” وهداة البال والاستقرار اللازم للاستمتاع بالثروات الخرافية التي أغدقها الله علينا فضلاً منه ورحمة بالعالمين.
وهكذا قد صيّرنا بيغن بطل الأبطال: طلبه أمر، ورغبته قدر، وخطته هي وعاء جهدنا وهي مهمتنا المقدسة، وعلينا من ثم أن نقدر ظروفه فلا نحرجه بمعارضة أو اعتراض.
لقد أعطينا بيغن – فعلاً – ما لم يعطه إياه الإسرائيليون. كنا نصدع فننفذ، وننساق لمشيئته، وكان الملاعين يرفعون أصواتهم بالاحتجاج وينزلون إلى الشوارع فيتظاهرون مجاهرين برفض بعض مشروعاته… ضدنا!
ومع بيغن وفي ظله صيّرنا شارون جبار العصر وقاهر الجيوش والأمم،
بجبن قادتنا وبجماجمنا ولحموم أطفالنا، صنعنا سجله العسكري الباهر، وبأسلحتنا المدمرة أو المأخوذة بشحمها جعلناه أعظم عباقرة الاستراتيجية والقائد المخطط الفذ.
كان قادتنا ينسحبون فيتقدم، وكانوا يفتحون له “الثغرة” فينفذ منها لالتهام النصر، وينفذون منها إلى واشنطن طالبين منها الشراكة الكاملة في صنع السلام، فتكون النتيجة أن يربح هو (وواشنطن) الحرب وصمت المدافع ولا يربح قادتنا غير شهادة حسن السلوك والالتزام بكلمة الشرف التي أعطوها لكارتر أو لريغان من بعده أو للعزيز هنري من قبلهما.
وهكذا التهم شارون من موقعه كوزير زراعة في حكومة بيغن الضفة فزرعها بالمستوطنات وصادر أرضها وطرد من استطاع من أهلها.
فلما كوفئ بإعطائه وزارة الدفاع لم يتردد في التهام لبنان، ومن فيه،
ولا ندري ماذا سيلتهم غداً ومن خلال موقعه الجديد في الوزارة الباقية، حتى إشعار آخر على أقل تعديل.
لقد ارتضينا ، ببساطة، أن نصير بعض تفاصيل اليوميات السياسية الإسرائيلية، وانقسمنا أتباعاً وأنصاراً لأحزابها، حتى كاد “المتطرف” منا يجاهر بالولاء لاسحق نافون (باعتبار إن كلا من بيريز ورابين لا يروي شوقنا إلى الأبطال)، أما “المتعدلون” منا فمنقسمون بين مؤيد لبيغن ومعه شارون، وبين مشترط لتأييد بيغن أن يتخلى عن شارون، وتبقى أقلية تراهن على ريغان (أو حتى فيليب حبيب) كبديل للشرين!
وبالتأكيد فإن ثمة بيننا من تعمر نفسه الآن بشعور الانتصار بعد إزاحة شارون عن وزارة الدفاع،
بل إن بيننا من بكى فرحاً فغامت عيناه بفعل الانبهار بالديموقراطية الإسرائيلية.
ففي منطق هؤلاء يكاد الموضوع ينحصر في “موقع” شارون، أو حتى في شخصه، وهم لا يحلمون حتى بإمكان تغيير بيغن فكيف – مثلاً – بإسقاطه، لاسيما إذا ما كان شرط الإسقاط تحقيق صمود جدي في وجه جيشه الذي لا يقهر.
وفي منطق أولئك، تتلخص الديموقراطية في معاقبة شارون بتبديل كرسيه في الحكومة متناسين الجريمة ذاتها، ومتناسين أصلاً إننا كنا ضحايا الجريمة، منذ قيام إسرائيل وحتى اليوم.
فالمذبحة ليست شيئاً يذكر، في عرفهم، أما “لفت النظر” المسؤول المباشر عن ارتكابها (ولو لأسباب تتصل بسمعة إسرائيل الدولية وبإصرار بيغن على الاستمرار في الحكم)، فتلك هي ذروة الديموقراطية والرقي والحضارة والانتماء إلى روح العصر.
لكأنما قتلنا مأثرة، خصوصاً وغنه يعطي المناسبة لإبراز ديموقراطية الجناة وإيمانهم العميق بكرامة الإنسان.
وإذا كان “نقل” شارون من وزارة إلى أخرى داخل الحكومة ذاتها، قد كلفنا ضياع نصف لبنان أو يزيد، فليحمنا الله من شر سقوط الحكومة كلها، لا سمح الله، وغضبة بيغن التي قد تكلفنا ما تبقى… بين المحيط والخليج.
… وعذر قادتنا بين: فإذا هرب الإسرائيليون إلى الأمام احتلوا المزيد من أرضنا، أما جماعتنا فكلما هربوا إلى الأمام، وجدوا أنفسهم قد خسروا المزيد من الأرض والكرامة،
فسبحان الله مقسم الأملاك والأرزاق، يعطي من يشاء متى يشاء بغير حساب، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم!
بحث
Subscribe to Updates
Get the latest creative news from FooBar about art, design and business.
المقالات ذات الصلة
© 2024 جميع الحقوق محفوظة – طلال سلمان