على امتداد نصف قرن، تقريباً، دفع “المواطن” العربي فاتورة الحرب مع إسرائيل. ولقد كانت ثقيلة جداً فالتهمت إضافة إلى هناءة عيشه ورغيفه حقوقه كإنسان يعيش في هذا العصر المذهل بوتيرة تقدمه.
وها هو الآن يُطالب بأن يدفع فاتورة الصلح مع إسرائيل، وهي بالتأكيد أثقل كلفة، وقد يدفع فيها إضافة إلى كرامته ما تبقى من حقوقه في أرضه وفي مستقبل لأبنائه فوقها… والشرط واضح: الدفع أولاً ثم تجيء الخيرات!
لنترك الشؤون الاستراتيجية بوصفها أسراراً ملكية، ولنلتفت إلى التفاصيل كالمياه والكهرباء والهاتف والطرق ومسائل الأمن والاقتصاد، وأخيراً: الديموقراطية، باعتبارها من نعم السلام!
المحروم في”العهد الوطني” من الكهرباء سيجيئه التيار الآن من إسرائيل، وسيكون عليه أن يدفع لها، مع الإعجاب والامتنان، مقابل تمتعه بنعمة النور، أي أنه سيدفع من أهليته لإدارة شؤون بلده كما من ماله لمصدر النور الإسرائيلي!
ومن عاش يسمع بالهاتف ولا يسمع رنينه لا في مكتبه في العاصمة، ولا يستطيع استخدامه بين حيين في مدينة واحدة، ولا يحلم بأن يصله بقريته، سيستطيع غداً أن يرفع السماعة وببضع لمسات من أصبع واحدة يفتح له الخط فيتحدث – لو شاء – ليحجز غرفة في فندق بحيفا أو مائدة في مطعم في يافا أو في تل أبيب، ولكل شيء ثمنه،
ومن لم يستمتع بمنظر المياه تنساب من “الحنفية” في منزله، وإن كان قرأ كثيراً عن الاعتمادات الضخمة لجر المياه أو تكريرها أو تقطيرها ومد الشبكات، سوف يستطيع غداً أن يشرب الماء القراح المصفى، ثم يدفع الرسم لجابي الشركة الإسرائيلية،
أما شبكات الطرق السريعة، كالتي يتفرج عليها في الأفلام، فلسوف تخترق الجبال والأودية والأنهار، وتمتد فوق البحور، فتلغي المسافات وتيسر له أمر الوصول إلى قريته كما لو أنه في صاروخ!
وفي ما خص الأمن فإن إسرائيل ستكون بمثابة الحكومة المركزية، أما حاكمه المحلي فمجرد مخبر مياوم!
وأما في الاقتصاد فلا يجوز الكلام: أليس اليهود ملوك المال في الدنيا؟!
تبقى الديموقراطية التي كانت محظورة عليه بذريعة أنها رجس من عمل الشيطان أو أنها باب للضعف ومجلبة للضرر، إذ قد تهز إيمانه بقيادته التاريخية، وقد تسوّل لنفسه السوء فينهار وينحاز إلى العدو محدثاً ثغرة في “السور” قد تذهب بالصمود!
تلك الديموقراطية التي كانت ملعونة تصبح الآن شرطاً للصلح، ويقول دعاتها أن تحقيقها ضرورة لتحصين السلام بإرادة شعبية لا زور فيها ولا تزوير ولا نتائج تسبق الاقتراع!
أترى كما كانت إسرائيل مظلومة وصورتها مشوهة وممسوخة في ذهن ذلك “المواطن” الساذج؟!
لقد حان الحين لإعادة الاعتبار إلى إسرائيل ليس فقط باعتبارها واحدة الديموقراطية ولكن أيضاً بوصفها باب التقدم العربي إلى الغد الأفضل!
وعلى هذا فإن الديموقراطية، أيضاً، ستأتينا من إسرائيل… وهي ديموقراطية بوجهين، ويمكن للحاكم أن يلبسها على الوجه، من أجل السلام، وعلى القفا من أجل الحرب، فالمانع يصبح مانحاً والعكس بالعكس لكنه يظل حاكماً في الحالين!
ولما لم يكن اليهود مشهورين بميلهم إلى الكرم والتبذير والإسراف، بل عرفوا بميلهم إلى تقريش كل شيء، وبشغفهم بالربا، وباستيفائهم الدين من لحم المدين، إذا نضب ذهبه،
… فالسؤال المشروع الآن هو: كم سيدفع هذا “المواطن” ثمناً للسلام الموعود؟!
علماً بأنه كان يدفع لحاكمه وبحجة قيامه بواجب حمايته من إسرائيل، وهو الآن سيدفع له مكافأة عن جهده في إحلال السلام وفتح باب التقدم والديموقراطية أمامه، إكراماً لإسرائيل… ثم سيدفع لحاكم حاكمه الجديد – القديم!
سلام الملوك أغلى بكثير من حروب الفقراء، فـ “ادفع بالتي هي أحسن… فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم”!!
بحث
Subscribe to Updates
Get the latest creative news from FooBar about art, design and business.
المقالات ذات الصلة
© 2024 جميع الحقوق محفوظة – طلال سلمان