لا ينفع التمويه في إخفاء الحقيقة المرة: فمؤتمر موسكو، متعدد الأطراف، الذي سيفتتح غداً، هو البداية الرسمية للعصر الإسرائيلي في زمن الانحطاط العربي القائم والمتمادي ليله حتى ليكاد يبدو بلا آخر.
صحيح إن هذا المؤتمر نتيجة، ولكنه أيضاً، وبحد ذاته، نقطة بداية وسبب سوف تتوالد منه مجموعة من النتائج الخطيرة تتجاوز بتأثيراتها المدمرة أي تقدير مسبق.
أبسط ملامح العصر الجديد إن إسرائيل ستكون بعد اليوم، وبالأمر أو بالرغبة المرجاة، “أقرب” إلى كل عربي من أخيه العربي الآخر، وبالتالي فلسوف تكون الفاصل أو العازل أو المانع الذي يحول بين تلاقي العرب وبين توحدهم على أي قضية من قضاياهم القومية.
لكأنه جرس الانصراف للمناضلين من أجل الوحدة وسائر الأهداف العربية المقدسة التي كانت تشد العرب بعضهم إلى بعض فتحمي ضعيفهم وتسعف فقيرهم وتؤكد حقهم في أرضهم وفي أحلامهم وطموحاتهم المشروعة إلى غد عربي أفضل لكل منهم كما لجميعهم.
لكأنه النعي الأخير لفلسطين، التي رفض القيمون على المؤتمر إدراجها حتى كجزئيات وعبر بند “اللاجئين”!
كانت حرب الخليج عاصفة صحراوية أعمت الخلق، فشتت شمل العرب وبعثرتهم ومزقت صفوفهم شر ممزق، وما انتهت إلا وقد تعمق الانقسام بعدما تجلبب بالدم والدمار، وتلقت فلسطين من الطعنات أكثر مما تلقت الكويت، فانشطرت هي الأخرى وتشظى أهلها وسائر العرب فأنكرت اليد الذراع، وغابت عن الوجه الملامح، فتساوى الأميركي والإسرائيلي مع العربي، بل لعلهما ألغياه.
في مدريد، وبرعاية واشنطن، تم قطف أولى الثمار المرة، ثم استقدم الدم لمواجهة السيف، كرة أخرى، في واشنطن بعدما حذفت الأمم المتحدة نهائياً، وحذفت معها فلسطين القضية، وترك لبعض أبنائها أن يطالبوا بحقوق الجالية الأجنبية في أرضها – أرضهم.
اليوم في موسكو سيكون على كل عربي بمفرده أن يدفع – صاغراً – ولإسرائيل مباشرة من أرضه ومائها وحقوقه فيها وفي مواردها الطبيعية، ما يجعلها “المالك” مكتفياً بأن تنعم عليه ببعض الفضلات وكأنه “مرابع”!
من لديه نفط سيعطي فلا يستبقي من نفطه إلا ما يقيم أوده،
ومن لديه ماء سيفرج عن الماء لتسقي العطاش في أرض الميعاد حتى لو قضى بعد ذلك عطشا،
من لديه صناعة فعلية أن يوقف تطورها وأن يدخلها في البرنامج الإسرائيلي حتى لا تضارب عليه أو تؤذي تخطيطاته للتوسع.
ومن لديه زراعة فعلية إخضاعها للخطة الإسرائيلية ضماناً لزيادة في الإنتاج وعدالة في التوزيع،
أما الثقافة وما اتصل بها من فكر وأدب، من شعر ونثر ونحت وتصوير وموسيقى وغناء، فيترك لأهل الحضارة المستقدمين من على ضفاف الفولغا أو من قلب القارة السوداء في الحبشة.
بين كل عربي والعربي الآخر سيستوطن السرطان الإسرائيلي، كمرحلة أولى، ثم يتغلغل فيلغي “الشعور العاطفي” بوحدة الانتماء ووحدة المصير.
مؤتمر موسكو يكاد يكون الهزيمة الأخيرة للعرب، إذ يسحق فيهم بعد الإرادة الهوية، وينتزع منها بعد الأرض القضية الجامعة والرباط المقدس، ويتركهم أحاداً مستضعفين، يلجأون إلى الولايات المتحدة الأميركية لتحيمهم من بعضهم البعض، ويلجأ كل منهم منفرداً إلى إسرائيل لتحميه من ذاته.
… ولعل الكمد هو الذي عجل في رحيل محمود رياض، فوفر عليه أن يشهد ذروة المآسي القومية.
وإذا كان يمكن التأريخ للعصر الإسرائيلي بمؤتمر موسكو، فإن تشييع هذا الفارس العربي الشجاع، محمود رياض، هو تشييع لعصر عربي كامل كانت فيه جامعة الدول العربية إنجازاً قومياً متقدماً ، على تواضعه.
فمحمود رياض المقاتل في فلسطين من أجل التحرير، والمكافح مع القوميين في سوريا من أجل الوحدة مع مصر، كان آخر أمين عام لتلك الجامعة التي تعكس حالة الأمة: تكون قوية في حال قوتها تندثر إلى حد انعدام التأثير في حال ضعفها وتفككها وافتقاد الرؤيا.
رحم الله محمود رياض،
رحم الله الجامعة العربية
أما فلسطين فعليها أن تنتظر جيلاً عربياً آخر لكي يبدأ تاريخها الحقيقي.
… وكذلك الوحدة وسائر الأهداف القومية المقدسة (سابقاً)!
طوائف كثيرة برؤوس كثيرة
… فأين تكون الدولة؟!
من السهل الدخول في الدهليز الطائفي، والتوغل فيه، لكن الصعب إلى حد الاستحالة هو الخروج منه بعد ذلكز
وأهم أو أبله أو منتفع إلى حد التخمة هو الذي يوصف المرحلة الراهنة في لبنان بأنها لا تطبيق للوصفة النواسية “وداوني بالتي كانت هي الداء”، وإن إغراق “الدولة” في المستنقع الطائفي الطائفي حتى رأسها هو أقصر سبيل لإلغاء الطائفية!
الطريف أن مطلقي هذه الخرافة والمروجين لها هم هم رموز الطائفية والمذهبية، في الحكم وخارجه، بل إن بعضهم كان قبل “الطائف” أقل طائفية فكشف الآن عن “هويته” صريحة لينال بها المزيد من الوظائف والمواقع في المؤسسات المدنية والعسكرية،
ومفجعة هي التحولات التي أصابت بعض “النخب” ممن كانوا قيادات لأحزاب قومية وتقدمية، ثم “تطافوا” حتى يسمح لهم بدخول جنة الحكم، وفي الحكم “زايدوا” طائفياً ومذهبياً على عتاة الطائفيين والمذهبيين، تعويضاً عما فاتهم وتكفيراً عما تقدم من ذنوبهم وخطاياهم “الوطنية” و”القومية” و”التقدمية”،
تماماً كما أن العديد من “رموز المجتمع” المدني والنظام الديموقراطي البرلماني زاحموا الميليشيات، وبمنطقها، ليؤمنوا “استيعاب” جماعاتهم وأزلامهم، في الوظائف الحكومية، بوصفها الطريق إلى “الزعامة الشعبية”، “فالزعيم” هن من يأخذ لنفسه من الدولة أكثر باسم الطائفة وعلى حساب الدولة.
من لم يكن طائفياً أو مذهبياً صار، فنال سمة الدخول إلى النيابة أو الوزارة أو كليتهما
ومن لم تكن له ميليشيا هو الآن بصدد إنشائها عبر الدولة وباسمها!
… والميليشيا هي “أرقى” درجات المذهبية!
لكأن اتفاق الطائف قرار بإبادة “المجتمع المدني” والتوجهات “الشيطانية” نحو التحرر من أثقال الطائفية والمذهبية في لبنان.
فقبل الطائف كان في لبنان طوائف ومذاهب، لكن كثرة من اللبنانيين كانت خارجها،
بتعد الطائف فرض على “اللبنانيين” أن ينضووا داخل طوائفهم ومذاهبهم وأن يزرعوا جرثومة الموت في أساس مشروع الدولة التي يزعم إنها قيد البناء في لبنان!
وعبر هذا “الصرع” تم تقويض المؤسسات تمهيداً لدفنها،
فاختراع “الترويكا” يلغي المؤسستين – الأم: مجلس النواب ومجلس الوزراء،
والمحاولة النشطة لضرب “الترويكا” والتي تتخذ من حكاية النظام الداخلي لمجلس الوزراء اسماً أو شعاراً لها إنما تحاول أن تقول إن “الزعماء” الفعليين للطوائف والمذاهب هم بين الوزراء وليسوا بين الرؤساء، وإن “الترويكا” لا تجسد “اتحاد الطوائف” بل مجلس الوزراء هو بذاته الاتحاد وإطاره!
وهكذا فالرئيس أهم من الرئاسة، وأهم من المؤسسة، وكذلك الوزير،
أليست الطائفة هي الموضوع… إذن فرمز الطائفة أو “قائدها” أو “زعيمها”
هو “الممثل الشرعي الوحيد”، وليست المؤسسة – سواء أكانت مجلساً نيابياً أم مجلس وزراء – إلا الاسم الحركي والشكل الذي يموه “الحقيقة” ويخفف من فجاجتها.
بعض المسيحيين يرى في “الترويكا” تحجيماً لدور الرئيس الماروني، وبعض الشيعة يراها دخولاً لطائفة الكثرة إلى نادي القلة الحاكمة، وبعض السنة يراها تعزيزاً لدورها في “القيادة” و”القرار”، أما سائر الطوائف – لاسيما الأرثوذكس والدروز، واستطراداً الكاثوليك – فترى فيها افتئاتاً عليها!!
ولا أحد يسال ع مصير مجلس النواب كمؤسسة رقابة على الحكم، ومؤسسة مجلس الوزراء باعتباره رأس السلطة التنفيذية.
أما الحديث عن النظام الداخلي لمجلس الوزراء فقد رأى فيه بعض السنة انتقاصاً من كرامة الطائفة ودورها، ولم يتوقف أحد ليسأل عن مصير مجلس الوزراء كمؤسسة؟!
كيف تحكم بلاد فيها سبعة عشر رئيساًن هذا إذا ارتضت كل طائفة أن يمثلها أحد؟!… في حين أن لبعض الطوائف – بين الزمني والروحي والمدني والعسكري – أكثر من عشرة قادة!! فكيف تحكم بلاد بمئة رأس ورأس، وهي التي – أكثر من أي وقت مضى – تحتاج إلى رأس (بدماغ مكتمل)؟
دولة لم تقم بعد، ويبدو متعذراً اكتمال بنائها في المدى المنظور، يتناتش الحكم ومغانمه فيها كل هذا العدد الهائل من الرؤساء… أنى لها أن تقوم؟
بحث
Subscribe to Updates
Get the latest creative news from FooBar about art, design and business.
المقالات ذات الصلة
© 2024 جميع الحقوق محفوظة – طلال سلمان