… ومن أجل أن تبقى، خلده، لبنانية ولا تصير – بالقهر – كريات شمونه، كان يجب ألا يحصل ما حصل فجر أمس، في الضاحية الجنوبية، وعلى امتداد “الحارة التحتا” الفاصلة بين القصر الجمهوري في بعبدا والفندق السابق الذي بدل جلده مرات قبل أن يصبح مركزاً للمفاوضات الجارية مع المحتل الإسرائيلي.
وبالتأكيد فإن المفاوض اللبناني – الضعيف أصلاً بقوة الأمر الواقع وعدم القدرة على استيعابه وتجاوزه – كان في أقصى حالاته ضعفاً يوم أمس، بسبب المداهمات التي تمت قبيل انطلاقه إلى “الخالصة” والتي اعتبرها الناس عقوبة إسرائيلية تطبق بأيد لبنانية رسمية استرضاء للمحتل وتنصلاً من مسؤولية عملية جريئة نفذت ضد جيش الاحتلال على طريق الحدث، قبل ثلاثة أيام… ومثل هذه العملية هي المشروعة، عرفاً، في العالم أجمع، وليس العقاب “الرسمي”!
ولسنا نعرف من نفذ تلك العملية، ولكننا نجزم أنه بعمله الشجاع قد خدم الدولة، وموقعها التفاوضي، لو إنها استثمرته كما يجب، بدل أن يكون جوابها، قد اتخذ الشكل الذي اتخذه ضد الأهلين، والذي أوصل عشرات الشباب إلى معتقل بدارو بغير تهمة ومن دون أي غطاء قانوني.
المهم، إن وفدنا قد أكمل طريقه، بأمان الله إلى “الخالصة” التي صارت – بالقهر – كريات شمونه، وإن المذيعين والصحافيين وكل هواة التصوير، والثرثرة قد ازدهوا بأن أطلوا عبر الشاشة الصغيرة وعلم جيش الاحتلال يخفق وراءهم، وكأنهم في رحلة سياحية…
وللمناسبة فإن “الخالصة” كانت قرية لبنانية، ولها في تاريخ العسكرية اللبنانية صفحة خاصة، إذ قاتل فيها الجيش اللبناني وزكى ترابها بدم شهدائه، فتأمل أين كنا وأين أصبحنا يا سبحان الله!!
حسناً، لقد ذهبوا فعقدوا الجلسة الرابعة، وتشاوروا جانبياً، وتغدوا جماعياً، وأدلوا بتصريحات متناقضة تزدحم فيها كلمات مثل: ربما، وقد، ولو أن، وكنا نأمل، ولا خلافات جدية ولكن، والروح طيبة غيران أن، والايجابيات تزيد على السلبيات، وثمة مشاكل تحتاج بعد إلى توضيح الخ…
وبعد أيام ثلاثة سيأتي ممثلو الاحتلال إلى خلده، وسيكون الاجتماع الخامس ، وبعده السادس في الخالصة، والسابع في خلده، وهكذا دواليك حتى نستفيق فجأة على أمر آخر غير الذي ذهبنا من أجله.
ففي حدود علمنا، بداية، إن المفاوضات ستكون “أمنية”، لكننا ساعة بعد ساعة نراها تصير “سياسة”، ونرى التعابير تتغير بهدوء شديد فيختفي الحديث عن “ترتيبات أمنية على الحدود” ليتركز على “التطبيع” بكل ما يعنيه من علاقات سياسية، واقتصادية وسياحية وربط شبكات المواصلات والكهرباء وصولاً على المطالبة بتعديل برامج التعليم ومد اليد إلى القرآن الكريم بحذف كل ما من شأنه أن يمس الانجازات الحضارية لليهود عبر التاريخ!
وهكذا يراد من الدولة التي لم تخض الحرب ضد إسرائيل بأي شكل، بعد العام 1948، أن تدفع ثمن “السلام الإسرائيلي” بأشكاله كافة.
أكثر من هذا، واستناداً إلى ما وقع أمس في الضاحية الجنوبية. إضافة إلى ما سبق وقوعه في معظم المناطق التي طالها الاحتلال الإسرائيلي، فكأنما يراد من هذه الدولة أن تؤكد التزامها “بالسلام الإسرائيلي”، عبر شنها الحرب ضد مواطنيها ممن لا يرون في وجود جيش الاحتلال سلاماً وحلاً عادلاً ودائماً لما يسمى “أزمة الشرق الأوسط”!
… وفي الوقت ذاته يروجون في الأوساط جميعاً عن احتمال تعيين هذا وذاك من أقطاب الكتائب رئيساً للجامعة اللبنانية (!!) أو رئيساً لمجلس إدارة أنترا، أو حاكماً للمصرف المركزي. إضافة إلى من سيتولى منهم الإشراف على الأعلام عبر “المجلس الوطني للأعلام” الذي يعتزمون إنشاءه بديلاً عن الوارة وملحقاتها!
… وفي الجبل لا يؤدي “الضغط” الأميركي الشديد إلى إخراج جيش الاحتلال، بل إلى جعله طرفاً محلياً، يشترك مع ميليشيات “القوات اللبنانية” والحزب التقدمي الاشتراكي، في اللجان والدوريات المناط بها حفظ الأمن… أمن المفاوضات!
أما في بيروت فيختفي السياسيون ومحترفو الكلام، بزوغ بعضهم إلى الخارج، وينكفئ بعضهم إلى الحجرات الخلفيات، ويعتذرون عن عدم المشاركة في أي لقاء لبحث أمر تفصيلي وبسيط كمصير الوطن وأهله بينما لا تفوتهم في العادة أي حفلة في أي سفارة أجنبية أو عربية نفطية.
وفي بيروت أيضاً تنتظر الحكومة مع المنتظرين آخر ابتكارات درايبر، واختراعاته وحذلقاته اللغوية التي من شأنها أن تمرر المضامين الخطرة والخطيرة بعد تغليفها بالقطن، حتى لا تخدش مشاعر المواطنين وطموحاتهم والاذان!
ويبدو الرئيس أمين الجميل وحيداً في الساحة، يتلقى الضغوط المحلية عن يمينه أساساً حتى يمضي قدماً إلى كريات شمونه بعد التخلص من اسمها القديم، الخالصة، وذكرياته المريرة، ويتلقى أيضاً بعض النصائح التي يشير أعظمها تطرفاً بالتروي وحسن الإخراج.
ومن عجب أن الرئيس الجميل لم ينشئ في القصر الجمهوري ، وفي هذه الظروف بالذات، غرفة عمليات سياسية، على غرار غرف العمليات الأخرى التي أنشئت أو التي هي قيد الإنشاء، تضم إلى جانبه (ومعه حكومته) رؤساء الجمهوريات السابقين ورؤساء الوزراء السابقين ورئيس المجلس النيابي، ولجنة الشؤون الخارجية فيه وقادة الأحزاب والقوى والفعاليات السياسية والاقتصادية والفكرية والاجتماعية، حتى لا يكون وحيداً في مواجهة الاحتلال الإسرائيلي وشروطه، وحتى لا يتهم بالتفرد في اتخاذ القرار الصعب الذي قد يقرر مصير البلاد، وليس فقط شكل الحكم في الحقبة المقبلة.
لماذا يأتي بهم إلى القصر طالما إنهم يبتعدون إلى أن تنصب الولائم فيجيئون للتبريك وقطف الثمار، متبرئين في الوقت نفسه من كل مسؤولية عما تم وعما سينتج عنه لاحقاً.
إن المحتل يواجهنا بقرار سياسي موحد، برغم الاختلافات التي تمزق المجتمع الإسرائيلي بسبب حرب لبنان ونتائجها، وأساساً بسبب استمرار وجود جيش الاحتلال وما يلاقيه فيه،
فلماذا لا نكون، على اختلافنا في أمور كثيرة، موحدين في القرار السياسي طالما أنه يمس مصيرنا ومصير أجيالنا الآتية؟
إن المجتمع الإسرائيلي في أشد حالاته تمزقاً، وهو ليس بأفضل حال منا، لولا اختلاف ظروفه، وليس أمراً بلا دلالة، أن تكون نسبة 53 في المائة من الإسرائيليين مع انسحاب جيشهم من لبنان بغير قيد أو شرط، فلماذا إذن نندفع هذه الاندفاعة الرعناء والتي من شأنها أن تفجر لنا مزيداً من الحروب، داخل بلادنا كما مع محيطنا العربي؟!
فلنتماسك ، إن لم يكن بالرغبة فبالقرار الحاسم،
وعندها لن نمهد لجولة جديدة في الخالصة التي صارت بالقهر كريات شمونه. بجولة نقهر بها الضاحية الجنوبية في كل المسافة الفاصلة بين بعبدا وخلده ذات التاريخ!
بحث
Subscribe to Updates
Get the latest creative news from FooBar about art, design and business.
المقالات ذات الصلة
© 2024 جميع الحقوق محفوظة – طلال سلمان