لأول مرة في تاريخها تجد المارونية السياسية نفسها في موقع دفاعي بين رعاتها ومحتضنيها والمغرمين بها والمصفقين لنجاحاتها الدائمة من العرب.
كانت المارونية السياسية، وباستمرار ، كامرأة القيصر، في عين العرب، كانوا بمعظمهم يغبطونها، ولعل بعضهم كان يحسدها على إنجازاتها المذهلة، فهي أقلية تحكم وتتحكم بأكثرية من دون اعتراض جدي، وهي تجسيد سياسي لنمط من التعصب الطائفي المغلق ومع ذلك فشهرتها الديموقراطية والحرص على الحريات، وهي مهجنة الهوى والهوية لا تعتبر نفسها من العرب ولا فيهم وبالكاد تقول إنها “تتعاطف” معهم، ومع ذلك فالكل ينزلها من نفسه ومن أمواله ومن مصالحه منزلة الابن المدلل.
وكان للمارونية السياسية الدعاة والمبشرون والمسوقون من المسلمين ومن المسيحيين الآخرين،
كانت قد استقرت في الواقع السياسي العربي كحقيقة ثابتة، كمسلمة، وبهذا ارتفعت فوق النقد وقصرت دونها الهجمات الموسمية التي كانت تتخذ الدين ستاراً، فتستخدم لغتها ذاتها، وترفع في وجهها السلاح الذي اصطنعته لنفسها واحتفظت بامتيازه لذاتها، بحيث يفضح حامله بأنه طامع بمزيد من الفتات وليس مناضلاً من أجل حقه في وطنه وحقوقه فيه كمواطن.
كان اللبناني الآخر، المتحرر من أسار المارونية السياسية، والمستشعر بفداحة ظلمها له كإنسان يخسر قضيته سلفاً إذا ما طرحها أمام العرب، حتى لو كان ينتمي إلى الطائفة المارونية.
لعل العرب كانوا يخشون، إذا ما انحازوا إلى المعترض، أن يتهموا بالطائفية والتعصب،
أو لعلهم كانوا يخافون أن يتورطوا في ما لا قبل لهم به: أي أن يفسر تعاطفهم مع المحروم أو المغبون أو المنتقصة حقوقهم الإنسانية، وكأنه نقض لقرار دولي كبير وخطير،
لعلهم كانوا يخشون أن يساء تفسير “مشاعرهم” الإنسانية فيعتبر نقضاً لمعاهدة ساكيس – بيكو وما تأسس عليها من نتائج سياسية واجتماعية ومصالح اقتصادية واستراتيجية،
وبعد إقامة الكيان الصهيوني على أرض فلسطين تعاظمت خشية العرب من أي مس أو هز أو ملامسة أو تحرش بالكيان اللبناني…
صار العرب يعتبرون إن أي اعتراض منهم على مسلك الحاكم في لبنان، وهو الابن الشرعي للمارونية السياسية ورمزها، قد يؤدي إلى خسارة المسيحيين عموماً ودفعهم إلى أحضان العدو الإسرائيلي.
أي إن العرب، بمعظمهم ، تصرفوا وكأنهم يسلمون بأن الموارنة “شعب آخر”، ينتمي إلى “قومية أخرى” أو إلى “أمة أخرى”، وكان الموارنة هم قومية بذاتهم وأمة تامة بذاتهم!
وازداد الموضوع السياسي اللبناني الداخلي تعقيداً، إذ بدا وكأن اللبنانيين ينتمون إلى قوميتين متعارضتين وليس إلى قومية واحدة، ولهم بالتالي هويتان، إحداهما رسمية وهي غير عربية، فينيقية مرة ومتوسطية مرة أخرى، وغربية دائماً لمجرد الاختلاف في المذهب، والثانية عربية ولكنها غير رسمية وغير شرعية وموضع ملاحقة واتهام دائم بنقص الولاء للكيان الخالد.
صارت الكذبة واقعاً سياسياً عكف “المؤرخون” على ابتداع تاريخ له فجعلوه مرة يبدأ بنقطة غائمة في ما قبل التاريخ، إذ جعلوا عمر الكيان ستة آلاف سنة،
… وفي مرة ثانية اكتفوا بأن ربطوا الكيان بنشأة الطائفة، ومطوا في عمر الطائفة حتى جعلوا ميلادها مصادفاً – يا سبحان الله – لبزوغ فجر الدين الإسلامي!
بهذا صار الكيان هو الهوية – الضد لتاريخ المنطقة الحديث، صار النقيض، وصار مخلوقاً من المريخ لا أب له ولا أم والدة، لا أخ له ولا قريب ولا مثيل. صار خارج الزمان والمكان والوجدان الحي لهذه الأمة… له تاريخه الخاص منذ الأزل وإلى الأبد، ولا علاقة له بالجغرافيا، فحدوده متحركة وفقاً للموجات الدينية، يتسع بقدر ما تتراجع الدولة الإسلامية ويضيق بقدر ما تتأكد مركزيتها وتتكامل سيطرتها على المناطق والثغور.
تاريخ لبنان الرسمي غير التاريخ العربي وخارجه، وجغرافية الكيان لا تتمظهر ولا تتحدد إلا في ظل الهزيمة العربية وبفضلها. هي خارج الجغرافيا العربية سواء أكانت تجمع العرب دولة مركزية واحدة أو يتوزعون على دويلات تجمعها رابطة الخلافة والدين شكلاً، وانتماء لبنان، كما تقدمه كتب التاريخ الرسمية المعتمدة في ظل دولة المارونية السياسية، ظل وباستمرار خارج الانتماء العام للمنطقة.
ولقد استوعبت المارونية السياسية فترات من التاريخ لم تكن فيها الحاكمة لكي تصطنع لها (وللكيان) تاريخاً ما يتجاوز تلك اللحظة التي رسم الجنرال غورو بقلمه حدود “دولة لبنان الكبير” قبل سبعين سنة فقط.
لم تتوقف المارونية السياسية عند حقيقة إن “الأمراء” المعنيين ينتمون إلى بعض الطوائف الإسلامية، وإن الأمراء الشهابيين بدأوا مسلمين وتحولوا إلى الدرزية ثم انقلب بعضهم – مع انقلاب ميزان القوى – إلى المسيحية لكي يستمروا حكاماً.
ولم تتوقف المارونية السياسية عند حقيقة إن “المتصرفية” في جبل لبنان إنما نشأت نتيجة استقواء “الدول” الغربية على السلطنة العثمانية – الرجل المريض – وليس كاستجابة لنضال الشعب “اللبناني” الذي لم يكن موجوداً بهذا الاسم على الأقل سنة 1860،
ولولا بقية من حياء لاعتبرت المارونية السياسية المتصرفين وبينهم الأرمن والنمساويون الألبان الخ، والذين كانوا جميعاً من الرعايا المسيحيين للسلطان العثماني، أبطالاً وطنيين لهذا الكيان المطاط بحسب مصالح الدول الأخرى.
ما علينا وللتاريخ، لنعد إلى ما نحن فيه،
وبعض ما نحن فيه أن يطالب “الكويتي” وفد “المارونية السياسية” للقاء اللجنة العربية للمساعي الحميدة بضرورة التخلي عن التصلب والقبول بالتافه من الاصلاحات، حرصاً على لبنان واللبنانيين والموقع الممتاز للمارونية السياسية في هذا الكيان المهدد.
لقد أعلنها الأميركي من قبل، وكذا الفرنسي والأوروبي عموماً، ومن باب أولى السوفياتي، لا بد من الاصلاح السياسي، لا بد من تخفيف قبضة الهيمنة الطائفية، لا بد من قدر من العدالة والمساواة بين اللبنانيين، لا بد من قدر من المشاركة في السلطة والتوازن في المصالح بين الطوائف، لا بد من الاعتراف بمواطنية البشر وبالتالي بالحد الأدنى من حقوقهم كبشر وكمواطنين،
أما أن يقولها “العربي”، سواء أكان كويتياً أم تونسياً (وكلاهما لبناني بالتمني) فهذا هو الجديد الذي يستحق من المارونية السياسية وقفة تأمل،
هذا العربي هو آخر أنصار المارونية السياسية في العالم، وآخر حصن لها، وآخر المدافعين عنها بالمال والنفوذ وبالسلاح إذا لزم الأمر،
مع ذلك فلقد أحرجه “الضابط الصغير” حتى أخرجه،
وقبل “الضابط الصغير” كانت المؤسسة العسكرية للمارونية السياسية ممثلة بالكتائب فـ “القوات اللبنانية” قد استفزته واحنقته وأربكته ، لكنه ظل يأمل في “صحوة” ما،
ثم جاءت الضربة القاضية عندما استولت هذه المؤسسة على الدولة اللبنانية التي كانت صورتها حتى الغزو الإسرائيلي في 1982 مموهة، فركب بشير الجميل ومن بعده أمين الجميل الدبابة الإسرائيلية للوصول إلى القصر الجمهوري، جهاراً نهاراً وعلى عينك يا تاجر،
برغم ذلك استمر هؤلاء العرب يحاولون!
ألبسوا أمين العباءة التي كانوا ألبسوها بشير في الطائف لعلهم يخفون بها تاريخه في العلاقة مع إسرائيل، أو يخففون من آثارها، ورطنوا معه بالإنكليزية ليوهموا أنفسهم إنه إنما يأتيهم من واشنطن وليس من تل أبيب.
لكن الطبع غلب التطبع فأقدم أمين الجميل على عقد اتفاق 17 ايار، مفترضاً إن عرب الصلح المنفرد سيصفقون لشجاعته، وإنه سيضمن للمارونية السياسية عمراً أطول إذ هو يحصنها بالسلام الإسرائيلي إضافة إلى الرعاية العربية.
وهكذا ارتكبت المارونية السياسية الخطيئة المميتة، كان العرب يحضنونها ويحصنونها ويمدونها بأسباب الرعاية والحياة حتى لا تأخذ “لبنانهم” إلى العدو الإسرائيلي، فإذا بها تجيء بإسرائيل لتسلمها هذا اللبنان منذرة بإقامة حلف سياسي – عسكري على قاعدة دينية بين الأقليات الخارجة على حقائق الحياة في المنطقة.
وكان منطقياً، وضرورياً ، أن يسقط اتفاق 17 ايار، ولو بقوة السلاح،
وكان المنطقي والضروري أيضاً أن يُسقط الحكم الذي أخذ لبنان، والموارنة بشكل خاص، إلى ذلك الجحيم،
لكن “الحكمة” العربية اكتفت بإسقاط الاتفاق دون إسقاط “بطله”، معتبرة إن الرجوع عن الخطأ فضيلة، وإن من أقر بذنبه لا ذنب عليه، ضاربة المثل بشهامة “العفو عند المقدرة” و”جل من لا يخطئ”، وإن الله غفور رحيم، وعفا الله عما مضى.
كانت “الحكمة” العربية تفتقد الصوت الماروني الواعي، والحركة المارونية المؤكدة للاعتراض والرفض ليس حباً بالعرب، أو من أجل تحرير فلسطين، ولكن من أجل حماية الموارنة وتوكيد انتمائهم القومي وارتباطهم المصيري بأخوتهم في سائر الأقطار العربية.
ثم من أجل حماية الموقع الممتاز للموارنة في لبنان،
اليوم وفي ظل إنجازات “الضابط الصغير” غادر آخر العرب موقفهم في حماية المارونية السياسية وامتيازاتها في لبنان وحربها المفتوحة ضد الحد الأدنى من الاصلاح السياسي الضروري لإنقاذها أكثر من ضرورته لإنصاف المسلمين وسائر المسيحيين،
وحربها على العرب جميعاً، الفلسطيني بداية ثم السوري، ومعهما وعبرهما الليبي والصومالي واليمني الخ.
وغدا على اللجنة العربية ذاتها، إذا هي لم تتبن طروحاتها المدمرة،
وليس من حق الطائفة العظمى بعدن أن تعتب على أحد، من العرب أو في العالم.
لقد تناوب الجميع على نصحها، وبكل اللغات، وبالأساليب جميعاً، من النصح إلى لفت النظر إلى التنبيه إلى التحذير فإلى الإنذار الصريح، وأخيراً بالتهديد الفج بالفوضى… الأميركية..
فماذا كانت النتيجة؟!
ميشال عون بعد أمين الجميل،
الابن المعاق بعد الولد المريض للمؤسسة السياسية – العسكرية التي تشكل بوجودها ذاته ظاهرة مرضية وإشارة خطر على الجمهورية ونظامها والكيان الخالد،
فهذه المؤسسة الكتائبية دفعت المارونية السياسية بعيداً جداً عن أهدافها المحلية في الحكم والسيطرة والهيمنة واحتكار السلطة.
لقد أخذتها إلى الأرض الحرام، أخذتها إلى الخطيئة المميتة، إلى إسرائيل.
وبهذا صارت المارونية السياسية في طبعتها الجديدة خطراً على العرب جميعاًز
صارت نذيراً بقيام إسرائيل ثانية،
وصارت ولادة لسلسلة لا تنتهي من الحروب الأهلية تحت شعار “امتيازات الأقليات” وضماناتها الأجنبية للخروج على إرادة أمتها وعلى الواقع السياسي للكيانات العربية القائمة،
وصارت نموذجاً يحتذى وقدوة تقتدى لكل متعصب أو متطرف يريد اغتصاب السلطة وقهر إرادة الأكثرية المختلفة معه والمخالفة لرأيه بقوة السلاح،
من أمين الجميل إلى ميشال عون،
ومن بعدهما؟
إلى أين يمكن أن يؤدي هذا الانحدار، حتى لا نقول الانحطاط في تمثيل المارونية السياسية،
إن اللبنانيين، والعرب، ما زالوا حتى اليوم يعترضون على الشخص والنهج والتشبث بنقائص النظام ووجوه الخلل والظلم فيه.
وما زال المطلب أحكمونا بأفضلكم ولا تتحكموا فينا بأسوأ إنتاج لمؤسسة التعصب التي لا يمكن أن تنتج الخير لا للبنان واللبنانيين (بمن فيهم الموارنة)، ولا للعرب عموماً.
ومن أسف إن اللجنة العربية قد سمعت من وفد المارونية السياسية، على ما يبدو، ما يؤكد التمسك بالغلط، والإصرار على المضي مع التطرف والتعصب والامتيازات حتى النهاية.
أين الآخرون؟!
أينهم يقولون إنهم لا يضيعون لبنان من أجل “الضابط الصغير” وما يمثله؟
أينهم يقولون للعرب إنهم ضمانتهم لأنهم أهلهم وليس لأنهم “حماتهم”؟!
أينهم يسقطون، أخيراً، المؤسسة التي لا تنبت إلا شوك الموت حتى في أيام الربيع؟
أينهم يحمون الأمل الأخير في لبنان ما ، قبل فوات الأوان…
بحث
Subscribe to Updates
Get the latest creative news from FooBar about art, design and business.
What's Hot
المقالات ذات الصلة
© 2025 جميع الحقوق محفوظة – طلال سلمان