لا دولة عادلة بإدارة مظلومة يستشعر كل منتم إليها الغبن ويفتش خارج وظيفته عما يسد به نفقات عيشه.
ولا مجال لقيام دولة عصرية بإدارة عاجزة ومتخلفة ومحدودة الكفاءات بسبب ضآلة الرواتب والتعويضات وحوافز الإنتاج.
والإدارة الحكومية تشكو الضعف والركاكة ونقص الهمة وسائر علل البيروقراطية من قبل أن تجتاحها الحرب فتدمر المؤسسات والمنشآت وتفسد البشر أو تقذف بهم بعيداً عن الحكومة أو عن الوطن.
ولقد أضافت الحرب بعداً خطيراً إلى أزمة موظفي القطاع العام، ففي حين ظل القطاع الخاص قادراً – بحكم تكوينه – على مجاراة التطورات واستيعاب احتياجات موظفيه وعماله، فإن الشلل الذي أصاب الدولة، بمؤسساتها جميعاً، قد جمّد رواتب الموظفين في القطاع العام وتقديماتهم عند حدود ما قبل الحرب… والأهم والأخطر: عند حدود ما قبل الانهيار الاقتصادي والسقوط الذريع لليرة.
ومن أسف إن الحكم قد استمهل فأطال المهلة حتى بدا وكأنه يهمل الأمر،
وإن بعض قطاعات العاملين في القطاع العام قد استعجلوا فلجأوا إلى آخر الدواء فوراً، وكأنهم يستأنفون نشاطهم السابق لدهر الحرب.
ومن أسف إن بعض المسؤولين قد قدموا لعلاج المسألة الإدارية بالتشهير بالموظفين، وقصروا اقتراحاتهم الأولية على المبدئيات من غير طرح المسألة بجذورها وبأسبابها العملية.
فالاتهام بالرشوة والفساد والتقصير، يصح في كل زمان ومكان،
لكن ليس كل من توظف ارتشى، ولا كل من دخل دار الدولة فسد،
ثم إن الحديث عن الفساد والرشوة يبدأ في الغالب الأعم من “تحت” في حين أن المصائب في “الأدوار العليا”.
وطريف أن نلاحق المرتشي بحفنة من الدولارات ثم نولي السلطة لشافط المليارات،
إن الاصلاح يبدأ من فوق، لأن السمكة – كما كان يقول المغفور له سامي الصلح – تفسد من رأسها.
والاصلاح لا يأتي مبتوراً، فلا يمكن التعاطي مع إدارة أو مؤسسة أو قطاع وكأنه جزيرة معزولة عن كل ما عداها.
لقد تحرك عمال البلدية فأخذوا،
وتحرك معلمو المدارس الحكومية فأخذوا،
فلما جاء دور أساتذة الجامعة الوطنية اكتشفت الحكومة عجز خزينتها، وانتبهت إلى أن الدورة ستكتمل بحركة القضاة وموظفي الخارجية والإداريين عموماً، فأرجأت الأمر كله إلى الخلوة التي سنرى فيها وعبرها العجب العجاب.
وقد لا يكون أساتذة الجامعة أكثر استحقاقاً من غيرهم من الموظفين، أو الأشد ظلماً، أو أصحاب المطلب الذي لا يصح تأجيله،
لكن الموضوع يتجاوزهم ليطرح مسألة الموظفين عموماً بأوضاعهم الإدارية والاجتماعية وبحقوقهم وتعويضاتهم التي يفترض أن توفر لهم الكرامة والشبع وحماية الحق العام والمال العام والمؤسسات العامة… وبكلمة: الدولة.
فلا أحد يعطي جهده حقاً لمؤسسة لا تعطيه ما يكفيه ذل السؤالن
ولا يمكن حفظ الكفاءات والخبرات في الجهاز الحكومي إذا هو لم يكن أرفع شأناً وأعظم إنصافاً من القطاع الخاص،
وقديماً كان الغبن خارج الدولة فتسبب إهمال علاجه في تصدع الدولة وانهيار مؤسساتها،
فهل يجوز أن ينتقل الغبن إلى داخل الدولة ثم نتوقع منها أن تطور نفسها وأن “تتعصرن” وأن تنصف الشعب الذي تقوم على رأسه؟!
وباختصار: يجب أن تتخلص الدولة من الهم المالي وهي تعالج شؤون المستقبل،
يجب أن تهتم بكيف تحصل مالها السائب، وهو هائل الحجم والقدرات، بدل أن تقتر على من حمى ما تبقى منه ومنها.
إن المال المنهوب من موارد الدولة ومن حقوقها أعظم بكثير من المطلوب منها،
والدولة العصرية بمؤسساتها ومنشآتها وإداراتها ليست شركة خاسرة، لكن العقلية المتخلفة والعاجزة والبلا خيال هي التي تدمر الدول والإدارات والشعوب،
ليس المال هو القضية، لكنه العقل وروح العدل والإنصاف،
فالناس “شايفة وقاشعة” كيف تصب مزاريب المال العام في بطون أصحاب الثروات واللصوص المتحايلين على نهب القطاع العام من خارجه، مع الإشارة إلى الفتات الذي يردونه إلى بعض الموظفين لمعاونتهم على تسهيل الجريمة وإخفاء البصمات وتجهيل الفاعل.
وفي الشهور الأخيرة وحدها “زرب” من المال ما يكفي لإقامة دولة عصرية جداً جداً جداً، فلا يجادلن أحد في أن الدولة فقيرة ولا تملك ما تعطيه.
فالأقوياء أخذوا ويأخذون ما يتجاوز أحلامهم.
والضعفاء ازدادوا فقراً حتى صار أي عمل خارج الدولة أكثر تلبية لاحتياجاتهم وعيشهم اليومي.
والأخطر: إن الحكم يكمل، بوعي أو بغير وعي، تدمير الطبقة الوسطى، وهي نقطة التوازن الاجتماعي والوطني في لبنان،
وذلك موضوع آخر، لنا إليه عودة قريبة.
الكردي التائه
يمكن أن تدرس شخصية جلال الطالباني كنموذج للسياسي الوصولي والانتهازي الذي لا يشق له غبار.
إنه رجل كل الفصول وكل الأزمنة، ولو بالكاريكاتور.
إنه الكردي – العربي – الإيراني – التركي – الأميركي – الإنكليزي – الألماني.
وهو بين الأكراد “برازاني” في لحظة، وديموقراطي في لحظة أخرى و”فيلي” إذا اقتضت المصالح والفرصة السانحة. هو يساري بما يتجاوز عصابة الأربعة الصينية، وهو يميني بما يجعله أستاذاً لأمراء العائلة السعودية ومشايخ الخليج. هو العلماني بلا تحفظ، وهو المتدين إلى حد التسليم بنظرية الإمام الخميني في ولاية الفقيه، متجاوزاً مذهبه السني… فما كل ما يلمع ذهباً.
هو “قومي عربي” و”وحدوي” مع جمال عبد الناصر، وهو أقرب إلى “البعثي” مع حافظ الأسد، وهو “تكريتي” مع صدام حسين، أما مع معمر القذافي فهو ثائر يعتمد العنف المسلح لتحقيق “النظرية العالمية الثالثة” وتطبيق “مقولات الكتاب الأخضر” في أربع رياح الأرض.
في مؤتمر المعارضات العراقية في بيروت كان ممثلاً شخصياً للجنرال شوارزكوف، وفي دمشق لبس العباءة والعقال كأمير نجدي، وحين وصل زاخو ارتدى ثياب “الملا” وأطلق صيحة التحرير التي قادته إلى … ملجأ صدام حسين مفاوضاً على نفط كركوك كمقدم لحقوق الأكراد في السليمانية وأربيل ودهوك وشقلاده وجلالا وصولاً إلى سرسنك.
وفي بغداد باع ما لا يملك واشترى ما لا يملك صدام حسين أن يعطيه، ثم قفز إلى أنقرة ليبيع الأتراك ما أخذه من العراقيين، مستبقاً النتائج التي يمكن أن يتوصل غليها مسعود البرازاني.
وفي مؤتمر الاشتراكية الدولية الذي انعقد في اسطنبولن الأسبوع الثاني من حزيران، قدم الطالباني العرض الأخير، مستفيداً من وجود ممثل إسرائيلي بارز (شيمون بيريز) وسط حشد أوروبي شامت بالعرب المهزومين ومستهزئ بحاضرهم ومستقبلهم بأكثر مما يريد المضيف التركي.
قال الطالباني أمام اشتراكيي “الأممية الأولى”، كما يسمون أنفسهم، ما يفيد أن العرب هو أسوأ بني البشر وأعلاهم كعباً في العنصرية واضطهاد القوميات الأخرى، وقال وقال وقال مستعيناً باللغات الكثيرة التي يعرفها والتي تعينه على أن يلبس لكل حالة لبوسهاز
ولقد فوجئ الطالباني بأن ثمة عرباً بين الموجودين، ولكن بعد فوات الأوان… وحين رد عليه نائب رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي دريد ياغي، غيّر لغته وحلاسه وجاءه معتذراً… وبالعربي! ثم أخذ يجول في القاعات لعله يلتقي وليد جنبلاط قبل أن يدخل القاعة فتصير الفضيحة بجلاجل!
على إن ذلك كله لا ينفع في تحسين وضع جلال الطالباني في العراق، شمالاً ووسطاً وجنوباً، فالأكراد لا يثقون بمواقفه، ولا يطمئنون إلى صدقه والتزامه بما يعلنه. ولطالما سمعوه يشهر بحليف قديم، وبشقيق مقيم، وبصديق غيبه ضيق ذات اليوم.
وسيبقى جلال الطالباني نموذجاً للانتهازي الذي يبيع مواقفه للأقوى فيخسر الصدقية والسمعة ولا يربح المنصب الفخم.
وعلى حد تعبير بعض أصدقائه فإن الطالباني يبيع المواقف وينسى أن يحتفظ لنفسه بواحد منها، ولذا فسيظل نموذجاً للكردي التائه بين الأكراد أولاً وقبل العرب.
بحث
Subscribe to Updates
Get the latest creative news from FooBar about art, design and business.
المقالات ذات الصلة
© 2024 جميع الحقوق محفوظة – طلال سلمان