لو تجاوز المواطن العربي مواقفه المبدئية الثابتة تجاه الصراع العربي – الإسرائيلي وطبيعته ومداه، وتجاه الإمبريالية العالمية وعلى رأسها الولايات المتحدة الأميركية ومخططاتها لإعادة إخضاع المنطقة برمتها لسيطرتها المطلقة، وتجاه الرجعية العربية ودورها المتعاظم والذي يخدم – بالنتيجة – عدويه الأساسيين، إسرائيل وقوى القهر الاستعماري بزعامة واشنطن،
لو تجاوز هذا كله وتساءل، مستخدماً المنطق اليومي العملي “البراغماتي”:
-ماذا يبقى من مؤتمر جنيف، عربياً، إذا خرج منه أو أخرج وهج الانتصار العسكري المحدود في حرب رمضان المجيدة، والاتحاد السوفياتي، والنفط، وشعب فلسطين؟..
… فماذا يمكن أن يكون الجواب؟
لقد تقضى حتى الآن قرابة العام على بداية الأخذ والرد في موضوع جنيف،
وكان العام المنصرم سلسلة من التراجعات العربية الجوهرية اضعفت وإلى أقصى حد مركز العرب التفاوضي، بحيث إن إسرائيل باتت تستعجل مؤتمر جنيف بينما أطراف عربية تفضل التأني، توخياً للسلامة! والمشي باتجاه جنيف “خطوة خطوة”.
فعلى الطريق إلى جنيف خسر العرب أهم نتائج حرب رمضان كما كانت تعكسها حالة إسرائيل السياسية، وليس من جدال في أن إسرائيل شباط (فبراير) 1974 كانت أضعف – سياسياً وعسكرياً واقتصادياً – من إسرائيل اليوم.
وخسر العرب “القيادة المحاربة” لتحل محلها “القيادة المسالمة” حتى لا نقول المستسلمة، ممثلة بملوك النفط وأمرائه والشيوخ الموقرين،
ومن نكد الدنيا إن هؤلاء الذين عجزوا عن الوصول إلى موقع القيادة قبل حرب 1973 ونتائجها الطيبة ، قد استطاعوا التصدر والتربع في الموقع العزيز بعد هذه الحرب (أي إنهم قد ربحوا من “الانتصار المحدود” ما لم يستطيعوا جنيه من هزيمة 1967 وقد كان لهم دور عظيم في حصولها..)
وخسر العرب، ومصر تحديداً، الاتحاد السوفياتي كحليف استراتيجي وكمصدر أول وأخير ووحيد للسلاح الكافي لتحقيق انتصارات، ناهيك بدفع الهزائم (وحرب رمضان شهادة لهذا السلاح كما في شهادة للرجال الذين قاتلوا وعبروا به).
وخسر العرب “سلاح” النفط الذي وظفت حرب رمضان لحساب أهله الميامين فجنوا المليارات ربحاً ثم اندفعوا يقاتلون – بقوة المليارات – أولئك المحاربين الشجعان الذين دفعوا دماءهم ثمناً للمليارات التي تعود إلى “أصدقاءنا” الأميركان، لا يهم أن تكون عودتها “شرعية”، أي عن طريق تشغيلها تجارياً في العقارات والأبنية، أو عن طريق دفعها ثمناً للقلاع والحصون التاريخية في البلاد الوحيدة في العالم التي تكاد تكون بلا حضارة وبلا تاريخ، أو أن تكون هذه العودة “مطلقة”، أي عن طريق موائد القمار ومواخير اللذة.
أما شعب فلسطين فهو المتضرر الأول من هذه الخسائر مجتمعة.
إن قوته الذاتية لم تكن تكفي في أي يوم لحسم قضيته بما يحقق مصالحه الوطنية، وكان يعتمد على الرصيد الذي تمده به حركة الثورة العربية، ويفيد من الرصيد الدولي المتعظم للعرب، كأمة حية…
وهكذا فإن أي خسارة عربية تنعكس، وبشكل مفجع، على قضية فلسطين، ارضاً مغتصبة وشعباً مضيعاً ومشرداً، وحركة مقاومة ثورية تفتقد الأرض والسند القادر والدعم الضرورية المطلوب لمواجهة أعدائها الكبار.
طبعاً هذا لا يعني أن نلطم على مؤتمر جنيف الذي لا يعرف مصيره إلا “العزيز هنري”،
فلم يكن انعقاد هذا المؤتمر – بالنسبة للمواطن العادي – مكسباً عظيماً أو مصدراً لنصر عزيز، لكن التتمة الطبيعية للتساؤل “البراغماتي” تفرض نفسها هنا بالصيغة التالية:
-ما هو بديل جنيف عند الجنيفيين من العرب؟
وسلفاً، يرد – على الخاطر – تساؤل آخر:
-وما هو بديل سياسة “الخطوة الخطوة” التي أفقدت هؤلاء جنيف دون أن تعوضهم عنها؟
ملحوظة: كان يمكن أن يقال إن البديل هو الحرب، ولكن الذي عجز عن الوصول إلى جنيف ، خلال سنة طويلة من التراجعات، لن يتمكن من الذهاب إلى الحرب غداً،
ثم، ماذا تراه أبقى من أجل الحرب، هذا الذي خسر ويخسر، يوماً بعد يوم، أصدقاءه وحلفاءه وأخوانه الحقيقيين، ولم يربح حتى “العزيز هنري”؟
وما أقرب جنيف – البعيدة جداً!! – ، قياساً إلى الحرب – البديل!
بحث
Subscribe to Updates
Get the latest creative news from FooBar about art, design and business.
المقالات ذات الصلة
© 2024 جميع الحقوق محفوظة – طلال سلمان