ليس الاتفاق الإسرائيلي – الفلسطيني مطروحاً للنقاش، أو للاستفتاء الشعبي (!!) خاصة على المستوى العربي (والفلسطيني ضمناً).
لقد طرح على الأمة كغدر، لا خيار فيه ولا هي تملك له رداً، فلا هي قادرة على رفضه الآن (أو هكذا صوّرت)، وليس من حقها أن تتحفظ عليه مستبقية لأجيالها الآتية حق نقضه غداً، متى تبدلت الظروف وتم مع تبدلها تعديل موازين القوى السائدة، فلسطينياً وعربياً ودولياً.
وأخطر ما جرى ويجري هو هذا الدمج المطلق بين القيادة الفلسطينية وبين شعب فلسطين (في الداخل والخارج وفي الشتات)، واستثمار التأييد الرسمي العربي أو الصمت العربي، للدمج بين مجموع الأمة وبين حكامها، فإذا “الكل” مع هذا الاتفاق الأشوه، أو أقله غير معترضين عليه، باستثناء “قلة قليلة لا تمثل إلا ذاتها”!! تهرب من واقعها إلى أحلامها أو بالأحرى إلى أوهامها!
هكذا وبشطحة قلم يراد شطب الأمة، وضمنها شعب فلسطين، بتضحياتها الجليلة على امتداد سبعة عقود أو يزيد، ورمي تاريخها في المزابل، وإحراق أعلام نضالها وشعاراتها والمواجهات بالصدور العارية لحراب المستعمر الأجنبي ثم لرصاص المستوطن الدخيل، وبين هذا وذاك لحكام الردة أو التخاذل أو التواطؤ أو الفرار من ساحة القتال!
وقد لا يكون من حق معظم الحكام العرب محاسبة ياسر عرفات أو مساءلته أو إدانته على ما تورط فيه، فهو في خاتمة المطاف واحد منهم، ثم إن مسيرته لم تبدأ اليوم ولا تكشفت وجهتها في مدريد أو في أوسلو، ناهيك بواشنطن.
لكن من حق أي مواطن عربي، فلسطينياً كان أم من أي قطر عربي آخر، أن يحاسب عرفات وأن يسائله، وأن يقبل منه (أو من سائر الحكام) ما يمكن قبوله، وأن يرفض ما لا بد من رفضه.
لقد أعطى كل عربي فلسطين زهرة شبابه، أعطاها بعض جهده وبعض ماله، بعض دمه وأحياناً كل دمه. أعطاها طفولته ومراهقته وشبابه وكهولته. أعطاها أمله وعمله. أعطاها حاضره وبعض مستقبله.
لم تكن فلسطين على امتداد العمر “خارجة” ليمنع عليه الآن مجرد إبداء الرأي، لأنه من “الخارج”.
ولقد يكون عذر عرفات، ومعه معظم الحكام العرب، أن جيل الهزيمة لا يمكن أن يحقق أو ينجز ما هو أفضل من الاتفاق الإسرائيلي – الفلسطيني، ومن سائر الاتفاقات التي قد يستولدها مؤتمر مدريد.
والتبريرات جاهزة ولا تقع تحت حصر: من التحولات الكونية المذهلة، وسقوط القوى العظمى الأخرى وفي طليعتها الاتحاد السوفياتي ومعسكره الاشتراكي، وتفرد الولايات المتحدة بالقرار الدولي، وحرب الخليج الثانية والزلازل التي صدعت النظام العربي وأنهت التضامن العربي وبعثرت قوى الصمود العربية، وصولاً إلى الاجتياح الإسرائيلي المتواصل للأرض الفلسطينية بالمستوطنات الخ الخ..
وكل ذلك صحيح وواقع لا يمكن إنكاره ولا إنكار تأثيره على القرار العربي.
لكن من حق هذا العربي المهزوم أن يحتفظ بحقه في نقض أي اتفاق يبرم في ظل الهزيمة ومنطقها السائد اليوم، والذي يصور أي اتفاق مع العدو الإسرائيلي وكأنه قدر لا فكاك منه ولا مهرب.
من حق العربي المهزوم أن يحتفظ لنفسه بما احتفظ به الإسرائيلي المنتصر: فثمة قوى أساسية داخل “المجتمع” الإسرائيلي، قالت بلسان “تجمع ليكود” أنها ستنقض هذا الاتفاق البائس إن هي عادت إلى الحكم!!
أما العربي فيبدو محكوماً بالإعدام مرات وليس مرة واحدة: فهو ممنوع من المعارضة، اليوم، وممنوع من الاحتفاظ بحق النقض غداًن وممنوع من أن يحلم مجرد حلم بأن يصل ذات يوم إلى الحكم، خصوصاً إذا ما جهر بمعارضته للاتفاق المفروض عليه فرضاً بقوة… العالم الأميركي الجديد!
ليس من حق أحد، كائناً ما كان موقعه، أن يدعي أنه إنما يختصر الأمة بشخصه، ليست الأمة فرداً صمداً، ولا يمكن أن تكون،
حتى “أصغر” الشعوب عدداً يستحيل أن يختصرها فرد، سواء أكان في موقع “الحاكم” أو في موقع “المعارض” أو – وهذا هو الأدهى – كان يحكم من موقع المعارضة وبلغتها المقبولة أكثر من الخطاب “الرسمي”.
وليس من حق أحد، حاكماً كان أم معارضاً، أن يصادر إضافة إلى الحاضر المستقبل، فينوب عن أجيال قائمة وأيضاً عن الأجيال الآتية، موحداً في شخصه الكريم الماضي والحاضر والمستقبل.
ليس ثمة الهة على الأرض، ولا يرقى القادة والسياسيون إلى مرتبة الالهة أو الأنبياء المعصومين الذين لا يأتيهم الباطل لا من أمامهم ولا من خلفهم.
والتاريخ ليس عبارة عن صفحتين : الأولى للحروب والثانية للاستسلام!
ما كل من حارب انتصر، وليس كل من جانبه النصر محكوماً بقدر الإذعان لمشيئة عدوه، فبين الحرب والاستسلام مسافة هائلة ليس من حق المهزوم مصادرتها وإلغاء إرادة شعبه وأمته، سواء باختزالها في شخصه، أو بتغييبها في الحال والاستقبال. فالصمود ينفع أيضاً ليكود الارض الحرام أو المنطقة الفاصلة بين حربين أو حتى بين هزيمتين.
قد يجد الحاكم المهزوم ما يبرر به هزيمته. وقد تكوم مبرراته مقبولة أو مرفوضة، خصوصاً إذا ما ارتبطت بالظروف الموضوعية كموازين القوى السائدة والتحولات الخطيرة على المستوى الدولي وطبيعة العلاقات المتوترة إلى حد القطيعة في ما بين العرب،
لكن ليس من حق هذا الحاكم ابداً أن يدمغ مجتمعه برمته، وسواء تمثل بشعبه أم بأمته، بالهزيمة وكأنها “نصيبه” من دنياه أو كأنها نتيجة حتمية لتكوينه الذاتي بقصوره وتخلفه وعجزه (الأبدي!!) عن إحراز النصر!
وآن أن تنتهي تلك المفارقة الموجعة بهزالها والتي تصور دائماً القائد منتصراً والأمة مهزومة… فالنصر بالأمة وللأمة، مهما طال الأمد، لا ينوب عنها فرد ولا يختصرها فرد ولا يبدأ تاريخها بفرد لينتهي بفرد آخر.
وقد لا يكون مجدياً (الآن) إعلان رفض الاتفاق الإسرائيلي – الفلسطيني،
لكن مثل ذلك الإعلان ربط نزاع، وحفظ حق في المستقبل، وليس بإمكان أحد مصادرته.
فلا أحد يملك مفتاح التاريخ، ولا أحد يملك أن يحرم الأمة من وجودها ومستقبلها لأنه متلهف على الحل فوق شبر من أريحا.
وحق النقض سيظل في الشارع، منتظراً القادر على رفض الهزيمة واتفاق الهزومين.
بحث
Subscribe to Updates
Get the latest creative news from FooBar about art, design and business.
المقالات ذات الصلة
© 2024 جميع الحقوق محفوظة – طلال سلمان