في الظاهر، قامت دولة الوحدة اليمنية تجسيداً لإرادة شعبية عارمة عبّر عنها “اليمني” مباشرة، وعبر استفتاء شعبي مشهود، في أول فرصة أتيحت له لكي يجهر بعاطفته الطبيعية ومطامحه الوطنية المشروعة.
لكن تلك الغرادة الشعبية لم تكن هي الأصل في ما حدث من “توحيد” لدولتي اليمن في واحدة، ولا كانت هي ضمانة استمرار الوحدة، ولا هي استطاعت أن تحمي حلمها من الانهيار تحت جنازير دبابات الأخوة – الأعداء.
بل إن تلك الإرادة الشعبية كانت الضحية الأولى التي تقاطعت عليها سيوف الدكتاتوريتين القبليتين في الشمال والجنوب.
فالدكتاتورية لا تطيق أن تزيّف نفسها: إنها تجيء بالشعب مخفوراً إلى صناديق الاقتراع فقط ليقول لها “نعم”، ويفوضها في أمور حياته وموته، رزقه ومصيره، وعليه بعد ذلك أن يمضي عمره في سجن “البيعة” الأبدية راضياً مرضياً.
لذلك لا مجال لأن تتحوّل الإرادة الشعبية، حتى لو كانت “موالية” للحاكم إلى مؤسسات جدية، تقوم بدورها في مجال ممارسة السلطة كما في الرقابة عليها والمحاسبة عن الأخطاء.
فالدكتاتور هو “المؤسسة” الوحيدة الخالدة، وكل ما تبقى من مجلس الوزراء، إلى مجلس النواب، إلى القضاء، إلى الرأي العام (وبين وسائل التعبير الديموقراطي عنه “الأعلام)، هي مجرد أدوات زينة لترفه عن الدكتاتور في أوقات الفراغ: تغطي على أخطائه أو تقلبها إلى حسنات وإنجازات، وتموه “صورته” أمام العالم فتمنحه شرف الانتساب إلى الديموقراطية التي يحتقرها حتى العظم، وتضفي على قراراته طابعاً “شعبياً” مزوراً، كما توفر له الفرصة “الشرعية” لتصفية خصومه، بقدر ما تمنحه متعة تفخيم رجال بلاطه وأعوانه وأغراقهم بالامتيازات والألقاب المشرفة ومعها النياشين.
وفي اليمن، قبل الوحدة كما في ظلها والآن، تحكم دكتاتوريتان: شخصية – عسكرية – قبلية في الشمال، وحزبية – عسكرية – قبلية في الجنوب.
لا علي عبد الله صالح هو “البطل التاريخي”، ولا هو النتاج المتميز لتجربة ديموقراطية عريقة، وصل بنتيجتها وعبر “المؤسسات” إلى سدة السلطة لكي يحكم باسمها ووفقاً لبرنامجها وتحت رقابتها.
ولا علي سالم البيض هو النقيض الشعبي لذلك “الدكتاتور العسكري”، برغم التجربة الحزبية التي طغت دمويتها على “جماهيريتها”، بقدر ما طغى النقل الحرفي لتجربة الغير البائسة على الفهم الموضوعي للواقع اليمني بكل خلفياته الثقافية والاجتماعية والدينية، وانعدام الحياة السياسية فيه في ظل الاحتلال البريطاني (جنوباً) كما في ظل الإمام (شمالاً).
وإذا كان بين المآخذ الجوهرية على علي عبد الله صالح أنه احتكر لنفسه وإخوته وأبناء عشيرته المناصب الأساسية في الجيش (الحرس الجمهوري، الطيران، الوحدات الخاصة، المخابرات الخ) والمواقع الحاكمة في الإدارة، فإن التصفيات المتوالية التي شهدها الحزب الاشتراكي قد حوّلته إلى ما يشبه “القبيلة المسلحة”، وجعلت المواقع القيادية فيه كما في السلطة للأكثر ولاء للقيادة التي استنقذت نفسها بعد تصفية الآخرين، أو ربما بتصفية الآخرين.
إنها حرب بين دكتاتوريتين، لا ينفع في إخفاء طبيعتها إلا العصبية القبلية التي يحتمي بها علي عبد الله صالح في الشمال، ولا العصبية الحزبية (المستندة إلى عصبية أخرى قبلية وجهوية) في الجنوب.
ولأن “الشمال” هو “اليمن” فحاكم الشمال هو الأعظم مسؤولية، سيما وأنه يعرف “شركاءه” الجنوبيين في الوحدة، وهو قد عجز عن تصفيتهم سياسياً وعبر “الدولة” الثالثة التي لم تعرف النور أبداً.
وهي حرب بين انفصاليتين، بغض النظر عن ادعاءات الحكام في عدن وصنعاء الذين لم يكونوا في أي يوم وحدويين حقاً: علي عبد الله صالح وجد فرصة “أميركية” سانحة “لإعادة الفرع إلى الأصل”، وعلي سالم البيض ومن معه استبقوا السقوط الرسمي للاتحاد السوفياتي والشيوعية بالعودة إلى “بيت الطاعة” وعبر السعودية، في انتظار جلاء الأمور، واستكمال الاكتشافات النفطية بكل ما تحركه من مصالح فيقرّرون إذ ذاك ما يناسبهم.
أما الشعب فهو واحد قبل الوحدة وخلالها وحتى الآن.
وأخطر ما في الأمر أن مدافع الدكتاتوريتين الانفصاليتين تصب حممها الآن على إيمانه بوحدته، أي بحقائق حياته، وتفتح خنادق من الدم بين أفراد الأسرة الواحدة، وتعطي للتقسيم مبررات سياسية وثأرية وقبلية وجهوية وشبه مذهبية لم تكن موجودة قبلاً، أو أنها لم تكن على هذا القدر من “الوجاهة” والتأثير.
وليست مصادفة أن تصدر البشري الأولى عن “حرب الانفصال” عن مسؤول أميركي، سرعان ما تولى إصدار البلاغات العسكرية والتقديرات السياسية متحدثاً عن حرب مفتوحة لن ينتصر فيها أحد ولن يتدخل لوقفها أحد.
هذا بينما السعودية “تصفح” عن الشيوعيين القدامى في عدم وتشجعهم وتساندهم رافعة عقيرتها (تمويهاً) بالدعوة إلى حقن الدماء ووقف الاقتتال بين الأخوة.
… وبينما النظام المصري يسحب يده من الوساطة، ويعلن ثم يسحب اعترافه بجمهورية السمك الجديدة – القديمة.
… وبينما صدام حسين يكمل تحريضه لخدينه علي عبد الله صالح، لعله يثأر له من بعض من واجهوه – بالسلاح – بعد غزوة الحمقاء للكويت التي دمرّت الأصل والفرع ولم تعد شيئاً إلى ما كان عليه إلا الاحتلال الأجنبي للجزيرة والخليج، وقد عاد هذه المرة في صورة “المحرّر” وتلبية للمطالب الشعبية في الأقطار المهدّدة والتي تحكمها دكتاتوريات أخرى ليست أحسن حالاً من مثيلاتها في “اليمنين”.
وطبيعي والحالة هذه أن يتم تصوير الوحدة وكأنها أم المصائب وسبب للخراب والدمار والحرب الأهلية.
… وطبيعي أن يغتنمها الانفصاليون، حيثما كانوا، مناسبة لتزكية أنفسهم وسياساتهم “الحكيمة” التي ابتعدت عن “المغامرات” وعن المتاجرة بالعواطف الشعبية لأغراض سياسية أو شخصية”!!
صار للانفصاليين جميل إضافي: لقد وفروا على الأمة مزيداً من الدم والإحباطات وأسباب الانقسام إلى حد الاقتتال الأهلي المفتوح!
أي أن الانفصاليين اغتالوا أقدس شعار عربي باستغلال خطايا “رفاقهم” الذين ركبوا مد الوحدة وصولاً إلى توسيع إطار “ممالكهم”، أو لاستنقاذ “مملكتهم” التي كانت آيلة للسقوط، كما في عدن، لولا الحمية السعودية في إنقاذهم من الشيوعية الهدامة ثم من الوحدة الأكثر تهديماً!
على أن الخلاصة الأكيدة التي كتبتها حرب اليمن بالدم: أن انفصاليتين لا نصنعان وحدة، وأن دكتاتوريتين لا نصنعان ديموقراطية.
وهذا درس مكلف لكنه ضروري من أجل غد أفضل، ولو… طال السفر!
بحث
Subscribe to Updates
Get the latest creative news from FooBar about art, design and business.
المقالات ذات الصلة
© 2024 جميع الحقوق محفوظة – طلال سلمان