لا بد أن ثمة التباساً ما، سوء فهم ما، خطأ ما، هو الذي تسبب في مصرع الفتى “بدر أسعد قراده” من أهالي نابلس في الضفة الغربية بفلسطين المحتلة، يوم أمس.
إذا صدقنا شهود العيان وتقارير المراسلين ورجال الشرطة، فإن الفتى الذي لما يكمل ربيعه الثالث عشر قد خرج، في جملة من خرج من أهالي مدينته، لتشييع خمسة من الشهداء سقطوا فيها برصاص الجنود (وربما المستوطنين) الإسرائيليين أثر صلاة الجمعة،
لم يكن يحمل إلا حزنه المبهم وثقل الإحساس بوطأة الموت حين تحس أنفاسه على وجهك… فبدر الأصغر من أن يفقه أسرار الحياة بعد، كان لا يزال غير مصدق أنه لن يرى الذين أخذهم رصاص اليهود إلى أبعد من مدى الرؤية والعلم، وكان يسأل فحسب إن كان سيلقاهم ذات يوم، في المستقبل، واين وكيف وبأية شروط، خصوصاً وإنه كان يعرف واحداً منهم بل اثنين، ثم إنه شهد بأم عينه كيف تناثر اللحم وتهاوت الأجساد أرضاً وعندما رفعت تبقت خرائط من الدم المجبول بالتراب تكاد تطابق خريطة فلسطينز
احتراماً للموت لم يحمل “بدر” مقلاعه، ولأنه كان في وضع الانحناء إجلالاً للشهادة فهو لم يفكر للحظة بأن ينحني لالتقاط حجر يرسله إلى هؤلاء الذين قتلوا أترابه.
كان حزيناً، يستشعر غصة في حلقه كلما سمع هدير الموع البشري يرتفع بالتكبير وبالشهادتين، ونفر الدمع من عينيه لأول مرة حين انطلقت زغاريد النسوة وبينهن أمه، تزف عرسان الشهادة.. وبحركة عفوية رفع “بدرط اصبعيه الصغيرين بعلامة النصر وتمتم – بادئ الأمر – بالشعار الحميم، ثم مع طغيان الهدير وجد نفسه مضطراً لأن يرفع صوته في ما يشبه الصراخ الضاحك من خلال دمعه المنساب بصمت مهيب: ثورة، ثورة، حتى النصر.
كان بدر قد جلس – قبل يومين أو ثلاثة، لم يعد يذكر – مع المتحلقين حول الشاشة الصغيرة يسترق النظر إلى صورة “الختيار” وهو يخطب أمام العالم، وسمع أسماء محببة مثل “فلسطين” و”الانتفاضة” و”القدس” والأرض و”الدولة”، صفق لها مع من حوله، وسمع كلمات أخرى لا يفقه لها معنى مثل “الإرهاب” و”العنف” و”التقسيم” والقرار الرقم كذا والرقم كذا، لكنه خجل من جهله فلم يسال، واكتفى بما سمع من أن “القضية انتصرت” و”الدولة ستقوم أخيراً” و”العالم كله معنا، ضد إسرائيل ومعها الأميركان”.
ربما لهذا لم يفهم “بدر” أن يتصدى جند الدولة التي هزمناها بالأمس، بقوة العالم الذي معنا، لتظاهرة الجمعة السلمية، واستعصى عليه أن يدرك لماذا يتصدون اليوم لجنازة شهداء تلك التظاهرة التي لم يسمع فيها إلا كلمات المحببة إياها: فلسطين، الانتفاضة، القدس الخ…
ولقد سمع “بدر” دوي طلقات الرصاص، لكنه كأي منتصر لم يأبه لها… وحتى حين مسته النار وانفجر شلال الدم من صدره لم يأبه للأمر، بداية، ومد كفه بأصابعها الصغيرة يتحسس جسده حتى وقفت على “المنبع” الذي يضخ باستمرار ذلك السائل الأحمر الساخن واللزج، وارتعشت أطرافه، ثم أحس بالضعف فتهالك وحاول أن يسند نفسه إلى حائط قريب لكن أيادي من حوله تداركته، فحملته ورفعته إلى أعلى فاستطاع أن يرى الرؤوس جميعاً، الحاسرة أو المنبثقة من قلب الغطرات واللفحات والشالات والكوفيات والمناديل البيضاء.
بعد ذلك وجد نفسه في سيارة تنطلق مسرعة، لكن الصور في رأسه ذي الشعر المجعد كانت تتداعى منطلقة بأسرع منها، ولمح مروجاً سندسية ويماماً أبيض وسنونو وفراشا أزرق وشقائق نعمان حمراء، حمراء مثل دمه، وياسمين أبيض وزهر ليمون وبيلسان، ثم استقر بصره على غيمة رقيقة لا تخفي زرقة السماء خلفها ولا تحجبها حتى وهي تتداخل وتذوب فيها قبل أن يهمر المطر.
“شتي يا دنيا شتي
“شتي ع طرحة ستي
“وستي بالمغارة
“عم تشرب سيكارة”.
… وذهب “بدر” مخلياً المكان لطيف ابتسامة تعودت أن تصاحب ذكر سته العجوز الطيبة التي تعبئ جيوبه كلما زارها زبيباً وجوزاً مقشوراً ثم تطعمه كنافة نابلسية “شغل البيت مش وارد الدكان”!
“بدر الانتفاضة” غادر “جبل النار” الآن التي طالما ودعت قبله قوافل من الشهداء،
لكن الأسئلة تتزايد في نابلس وفي المدن الأخرى والقرى والدساكر والمزارع والمخيمات المكتظة بالشهداء الأحياء:
-هل سقط “بدر” لتقوم “الدولة”؟.. إذن ففي هذا العزاء والثواب، وما أعز المفتدى.
-هل “بدر” هو جزء من ثمن “الحوار” مع الولايات المتحدة؟!
-هل كان ضرورياً أن يموت “بدر” في لحظة الاعتراف بإسرائيل وحقها في العيش بأمن وسلام؟! أليس من حق “بدر” أيضاً أن يعيش فوق أرضه بسلام؟!
-هل مقتل “بدر” هو ثمن التبرؤ من الإرهاب؟! وهل الإرهابي هو المقتول؟ أيقتل، إذن، “بدر” مرتين ثم تطارد إسرائيل أهله فتطردهم لأنهم أهل إرهابي خطير؟!
-هل سيدرج “بدر” على جدول أعمال “الحوار” (مع السفير الأميركي بتونس) وهو حوار هدفه الوحيد أن يتبرأ “الختيار” من شبهة القربى مع “بدر أسعد قراده” الذي يهدد أمن إسرائيل والسلام في المنطقة والعالم لأنه – بذاكرته الندية – ربط بين “الثورة” وبين “النصر”، بين “الانتفاضة” وبين “فلسطين”، بين “الدولة” وبين “العروبة”، وهذه كلها محظورات وممنوعات محرم استخدامها إذا أريد للحوار مع واشنطن أن يصل إلى نتيجة ما، فكيف إذا اتصل الأمر بالاعتراف ، ثم كيف إذا اتصل الأمر بالمفاوضات مع المحتل الإسرائيلي؟1
-… وهل الإصرار على تسمية نابلس بـ “جبل النار” تخرق الاتفاق مع “الختيار” على نبذ الإرهاب؟!
هل على نابلس وأهلها أن يخسروا أسماءهم وأن يغيروا لون بشرتهم السمراء وأن يسقطوا أعلامهم، وأن يرطنوا بالإنكليزية (حتى لا نقول بالعبرية) لكي يتم الاعتراف بهم…
ومن سيكونون، إذن، بعد ذلك، وما هو موجب الاعتراف؟
رحم الله “أبا جهاد” خليل الوزير،
كان “بدر” هو الاسم الحركي لقائد مخيم تل الزعتر، في الضواحي الشرقية لبيروت، خلال حصاره من قبل حلفاء إسرائيل في لبنان، وكان “أبو جهاد” يناديه كل ساعة ويستنخيه ويحدثه عن فلسطين، مدنها وقراها، رجالها ونسائها وقوافل الشهداء، ليصمد أكثر،
ولقد صمد “بدر” حتى النفس الآخر، وحين سقط كان “الختيار” سعيداً بأنه قد نال الاعتراف به طرفاً في قمة الرياض،
ولم تعوض الرياض تل الزعتر ولا أهله ولا “بدر” الصامد فيه حتى الطلقة الأخيرة،
فهل ستعوض جنيف “بدر” الانتفاضة في “جبل النار”، حتى لا نقول فلسطين؟!
أين الالتباس في الأمر كله؟!
من الضروري التحديد حتى لا تذهب هدراً دماء “بدر أسعد قراده” ومئات بل آلاف الشهداء الذين انتزعوا بدمائهم الاعتراف بفلسطين وشعبها وأمتها، من قبل أن يبدأ “الحوار المفتوح” للحوار، على قاعدة “الفن للفن” مع السفير الأميركي بتونس بزمان طويل.
والمرجو ألا يضيع “الحوار” ذاته الظروف التي فرضته!
بحث
Subscribe to Updates
Get the latest creative news from FooBar about art, design and business.
المقالات ذات الصلة
© 2024 جميع الحقوق محفوظة – طلال سلمان