… وبين “خلده” اللبنانية و”الخالصة” التي صارت – بالقهر – كريات شمونه، تدور الآن رحى المعركة الأخيرة (؟) في “حرب لبنان” وهي حرب ليست هزيمتنا فيها قدراً لا يرد، وإن كان الانتصار فيها صعباً إلى حد الاستحالة، لكن المساحة بين الواقع القاسي والطموح الصعب تكاد الاتساعها أن تكون مفتوحة للاحتمالات جميعاًز
وأول شرط لمنع وقوع الهزيمة الكاملة هو أن نتصرف انطلاقاً من أن ساحة المفاوضات تمتد لتشمل العالم بأسره، ولا تنحصر، بل ولا يجوز أن تنحصر في تلك القاعات والغرف المغلقة، في فندق “ليبانون بيتش” بخلده أو في “المركز الاجتماعي” بكريات شمونه.
فالتفاوض وكأن الغرفة تشكل (بمن فيها) بداية الدنيا ونهايتها لن يوصلنا إلا إلى الإقرار بالهزيمة الساحقة الماحقة ومن ثم إلى التسليم بنتجائها والتداعيات المنطقية لها.
أما التفاوض وقد استحضرنا العالم كله معنا، بصراعاته والتناقضات في المصالح بين معسكراته وبين دول المعسكر الواحد، والتمايزات حتى بين الحلفاء ناهيك بالأشقاء، فإنه يعطينا هامشاً أوسع للمناورة وللحركة السياسية التي يمكنها أن تعدل بعض الخلل الحاصل في موازين القوى بيننا وبين عدونا.
وإذا ما توقفنا أمام الولايات المتحدة الأميركية بالذات، في ضوء موقفها منا وموقفنا منها، فماذا نجد؟!
نجد – باختصار – إن الإدارة الأميركية برئاسة ريغان هي المتلهفة على “نتائج إيجابية” للمفاوضات، لأنها تحتاج، أشد الحاجة، هذه النتائج بوصفها “الورقة” الأساسية في الحملة الانتخابية التي انفتحت عملياً في بلاد العم سام، والتي يعلق عليها ريغان آماله في تأمين أكثرية تضمن التجديد له لفترة رئاسية ثانية.
ذلك إن وصول المفاوضات إلى طريق مسدود ومن ثم فشلها يعني إعلان وفاة لمبادرة الرئيس الأميركي ريغان وهي فرس رهانه الوحيدة في معركة تتضح صعوبات كسبها يوماً بعد يوم.
فالفشل في لبنان ومعه يشكل ضربة قاضية لما يسمى “الخيار الأردني” وهذا الخيار – بالذات – هو حبة العقد في مشروع ريغان الذي ارتكزت إليه قمة فاس العريبة وما نتج عنها من سياسات أضفت “مشروعية” معينة على تبني الحكام العرب – مجتمعين – مقولة السادات الشهيرة عن “إن واشنطن تملك 99 في المئة من الأوراق في المنطقة العربية”… وواشنطن هي من يملك بالتالي القرار إما بإيقاع هزيمة إسرائيلية جديدة بالعرب، وإما بالوصول إلى تسوية تحفظ ماء الوجه وعروش الحاكمين،
في ضوء هذه المعاني تبدو واشنطن – ريغان محكومة بالنجاح في لبنان، لكي تستطيع الانتقال إلى “الخيار الأردني” بما يضمن طي الصفحة الفلسطينية والزعم بأن ريغان وحده من دون جميع الزعماء، السابقين والحاليين، الأميركيين والأوروبيين والسوفيات، هو الذي أنجز المستحيل وحقق “السلام الأميركي” في أخطر منطقة في العالم وأنهى الأزمة الأبدية التي تنسب إليها منذ فترة بعيدة منطلقتنا برمتها… أفليست قضية فلسطين هي السبب في ابتداع تعبير “أزمة الشرق الأوسط”؟!
وفي ضوء هذه المعاني يكتسب الرهان اللبناني على الموقف الأميركي بعده الكامل: فإذا كانت الأوراق كلها أو معظمها في اليد الأميركية فقضية لبنان هي وحدها المؤهلة لأن تغل أو لأن تطلق اليد الأميركية في المنطقة من محيطها إلى الخليج، بل إلى أبعد بكثير إلى ما يكشل ستاراً حديدياً (أميركياً هذه المرة) يطوق الاتحاد السوفياتي والمعسكر الاشتراكي ويعزله بعد دمغة بالعجز والفشل في مناصرة قضايا الشعوب وتحررها من الاستعمار والإمبريالية الخ…
والموقف الأميركي، كأي موقف آخر، ليس خياراً مطلقاً وليس قراراً نهائياً وحاسماً، بل هو قابل للتطور والتطوير كما هو قابل للتراجع والانفكاك، وفقاً لعلاقة جدلية مؤكدة بموازين القوى ووسائل الضغط المستخدمة أو المتاح استخدامها.
وهنا تبرز أهمية “الدول الأخرى” و”العلاقات الأخرى” عربية ودولية، على الأقل من أجل الضغط والتأثير على الموقف الأميركي.
فإذا كانت “مصر السادات” المثقلة بمعاهدة الصلح المنفرد (اتفاقات كامب ديفيد) تبدو محرجة إلى حد “تحريض” لبنان على التصلب وعدم الخضوع للشروط الإسرائيلية، ولوي الذراع الأميركي من أجل تدخل فعال يجابه الابتزاز الإسرائيلي، فما بالك بالدول الأخرى الأكثر بعداً أو استقلالاً عن واشنطن من مصر حسني مبارك؟!
وإذا كانت فرنسا، الحليفة الاستراتيجية الدائمة، للولايات المتحدة قد حذرت لبنان (والفلسطينيين وسائر العرب) من مخاطر الإقدام على رهان وحيد الجانب يبدأ بواشنطن وقدراتها المزعومة وينتهي بها، فلماذا إذن نمشي إلى الفخ بأقدامنا ونحن نعرف سلفاً إن واشنطن لن تعطينا إلا ما ننتزعه منها انتزاعاً، ووفق ما نوفره من أسباب الضغط عليها، ومن داخل المعسكر الغربي ذاته، الذي نتبرع بإعلان الانتساب إليه صباح مساء؟!
وعبثاً ننتظر عودة فيليب حبيب وحلوله السحرية، طالما لم نكن مستعدين لما بعد فشله (المحتمل، على الأقل)، وطالما كنا قد فرضنا على أنفسنا حصاراً قاسياً داخل خيار أميركي مشكوك بنتائجه.
وفي الروايات إن فيليب حبيب قد حاول مرة، في إحدى تنقلاته المكوكية بين بيروت والقدس المحتلة، أن يقنع بيغن “بشيء” من التساهل منعاً لانفكاك لبنان واندثاره انطلاقاً من كونه لا يستطيع أن يعيش بعيداً عن العرب ومن دون أموالهم التي تسند اقتصاده الهش، فكان جواب بيغن: “- ولماذا تريدني أن أسلم بأن يعيش اللبنانيون في حال أفضل من حالنا؟! فليتعبوا وليعملوا ولينتجوا ليكون لهم اقتصاد قوي، كما نتعب نحن لنبني دولتنا…”.
وفي الروايات أيضاً إن بيغن، وغيره الكثير من الإسرائيليين، قد أصابهم الذهول أمام البيوت اللبنانية الفخمة والجميلة التي رأوها في الجنوب أو في الجبل، أو في ضواحي بيروت، وحاروا في تفسير أمر الدخول المرتفعة التي يحققها اللبنانيون بأساليبهم الخاصة، وما نسميه في بيروت “العبقرية” في تأمين “البراني”.
وفي الروايات أخيراً، كما في الوقائع أن بيغن ومعه معظم المسؤولين الإسرائيليين يطمحون أكثر ما يطمحون إلى إلغاء لبنان، لبنان الدور العربي، لكي يستأثروا هم بما نال وينال اللبنانيون حالياً من خيرات العرب، وإنهم في سبيل تحقيق مثل هذا الهدف يقاومون مقاومة عنيدة “الضغط” الأميركي اللطيف عليهم.
وفي التقدير إن هذا الدور العربي للبنان، والحاجة الأميركية الأكيدة إلى مثله هي بين نقاط القوة الأساسية في الموقف التفاوضي للبنان.
وفي غد نتحدث عن أسباب القوة التي يوفرها هذا الوضع العربي، على ضعفه، للمفاوض اللبناني، وهي أسباب نراها كفيلة بأن تبقي الناقورة (وليس خلده فقط) لبنانية بقدر مام هي واشنطن أميركية، فإلى الغد.
بحث
Subscribe to Updates
Get the latest creative news from FooBar about art, design and business.
المقالات ذات الصلة
© 2024 جميع الحقوق محفوظة – طلال سلمان