كان يا ما كان في قديم الزمان وسالف العصر والأوان، كان في لبنان حكم ظالم لا يحترم الإنسان، لاسيما إذا كان فقيراً، فيتركه فريسة الجهل والمرض والتخلف ثم يتهمه في كفاءته وقدرته على استيعاب العلم ومواكبة التقدم، ويطعن في أهليته للقيادة أو الإدارة ثم يمن عليه بوظائف خطيرة من مستوى الحاجب والخفير والشرطي والحارس البلدي،
لم يكن للفقراء، الذين يتوالدون كالأرانب أو كالفطر، مدارس، فإن وجد بعضها فإن المقاعد القليلة والقاسية والمهشمة فيها لا تكفي إلا أولاد بضع أسر، ولا توصل إلا إلى “فك الحرف” وضمان النجاح في امتحان الاملاء الضروري لاقتحام سلك الدرك أو الانخراط في ذلك الجيش البلا قضية أو ما يعادل مثل هذه المواقع القيادية المهمة…
لكن الدولة اليقظة كانت لا تقصر في مكافحة الجريمة وتأديب المجرمين، وهم بالضرورة بعض أولئك الفقراء المتناسلين بغزارة حتى وهم “مطلوبون” أو “طفار” أو “موقوفون على ذمة التحقيق”،
من هنا كان بين “مفاخر” الدولة القديمة – سقى الله زمانها – سجن الرمل،
وسجن الرمل كان نموذجاً مصغراً للدولة ونظامها الفريد، فالمراتب تقررها المداخيل، أي المستوى الاقتصادي، مع أخذ المستوى الاجتماعي بعين الاعتبار، وهكذا ينتظم السجناء طبقات أو درجات، الأغنى، فوق يلبه الاقل غنى، أما الحضيض فمحجوز لأفقر الفقراء أو الكادحين أو المحرومين أو المستضعفين في الأرض.
وكان بعض هؤلاء الفقراء يتمنون أن تمتد مدة حبسهم، ويتوسطون النافذين لهذه الغاية، فالسجن – على حقارته – يوفر المنامة والغذاء (!!) مجاناً!
كان يا ما كان، في قديم الزمان وسالف العصر والأوان، حالة نهوض قومي عظيم تجتاح هذا الوطن العربي من أقصاه إلى أقصاه،
وكان ثمة فارس لم تعرف مثله البلدان، كرسيه في الكنانة وظل مجده وارف وممتد بين المحيط الهادر والخليج الثائر، إذ كان أمة في رجل،
وكان جمال عبد الناصر، ابن الناس الفقراء، مقاتلاً من طراز فريد: قاتل الاستعمار والاستغلال، قاتل قوى القهر الخارجي وقوى القهر الداخلي، قاتل عصور الظلام والظلاميين، وقاتل حارمي الفقراء من حقوقهم الإنسانية الطبيعية، كحقهم في العلم وفي العزة وفي الخبز وفي العدالة.
ولأنه كان فارساً عربياً، ولأنه كان أمير الفقراء، ولأنه كان من رواد الغد، ولأنه كان حالماً عظيماً بقدر ما كان مقاتلاً مجيداً، فقد قرر أن يبني جامعة الفقراء العرب خارج مصر،
ولأن عبد الناصر كان يعرف إن القاهرة لا تكمل، سياسياً، إلا بدمشق، ولا تستكمل إطلالتها على الدنيا إلا عبر بيروت وبواسطتها، فقد بنى جامعة عربية في عاصمة الثقافة العربية المعاصرة،
كان يا ما كان: سجن وجامعة، يتجاوران تماماً تجاور الماضي والحاضر، الأول يجسد الدولة الظالمة والثاني يجسد حلم الأمة الباحثة عن مكانتها تحت الشمس.
ولقد حارب أهل الظلم والظلام قيام جامعة الفقراء بكل سلاح: حاولوا منع إصدار المراسيم، فلما صدرت اضربوا ضدها، فلما فتحت أبوابها قاتلوا الطلاب الذين انتسبوا إليها وهددوها بعدم الاعتراف بشهاداتهم، فلما تخرجوا حاولوا منعم من ممارسة العمل الحرب (كمحامين) ومن اقتحام ميدان الوظيفة العامة الخ.
لكن ذلك كله لم يوقف الطوفان،
وصارت جامعة بيروت العربية، جامعة جمال عبد الناصرن منهل العلم لفقراء الأمة العربية كلها: من اليمن إلى فلسطين، ومن سوريا إلى أقطار المغرب العربي، إضافة إلى طلاب لبنان الذين تدفقوا عليها من كل حدب وصوب.
جاء أولاد الفلاحين، أولاد الخفراء والحجاب ورجال الشرطة والدرك والحرس البلدي،
وجاء أبناء العمال، عمال الأفران وعمال البلاط ونجاري الباطون وماسحي الأحذية والطباخين و”غرسونات” المطاعم والفنادق والمقاهي والعتالة الخ.
بل جاء صغار الكسبة، جنود جيش، شرطيون، دركيون، عمال في مصنع السكر، فصاروا طلاباً كانوا يقترون في طعامهم حتى يتمكنوا من دفع نفقات الانتقال وتكاليف استنساخ المحاضرات.
ومن البلاد العربية جاءت جيوش الفقراء والمناضلين والحالمين والعاملين والمقاتلين من أجل الخبز مع الكرامة،
وببساطة، ودونما إعلانات ودعايات، صار عدد طلاب جامعة بيروت العربية ثلاثة أو أربعة أضعاف أولاد الذوات المسجلين في جامعة بيروت الأميركية أو في الجامعة الأجنبية الأخرى (اليسوعية) وهي فرنسية المنشأ واللغة والهوى.
وتحت الضغط، وفي محاولة لوقف الطوفان، اضطرت الدولة أن “تسمح” بقيام الجامعة الوطنية للبنان، وهكذا أعطانا جمال عبد الناصر جامعتين للفقراء، بدلاً من جامعة واحدة، في لبنان.
كان يا ما كان، كان للفقراء جامعتان في لبنان، وللأغنياء جامعتان واليوم تكاد بيروت تكون بلا جامعة، لا للفقراء ولا للأغنياء.
ولقد وجدت جامعتا الأغنياء من يدافع عنهما في وجه العابثين ومنتهكي الحرمات ومزوري الامتحانات وضاربي العمداء والأساتذة والمدرسين.
لكن جامعة الفقراء الأولى (اللبنانية) تهاوت بصمت، إذ صارت معظم كلياتها “مكاتب” للميليشيات،
أما جامعة الفقراء الثانية فقد سقطت شهيدة عظمى لحرب الزواريب المجيدة (!) خلال الأسبوع الماضي.
اجتمعت البنادق جميعاً، المدافع جميعاً، القذائف الصاروخية جميعاً، الطوائف جميعاً، الأحزاب جميعاً، ضد الجامعة العربية في بيروت، واستمروا يمطرونها بوابل أحقادهم حتى دمروا المباني، ثم اقتحموا الكليات فنهبوا محتوياتها وأتلفوا ما عجزوا عن حمله!
هل يمكن أن تتم مثل هذه الجريمة الشنيعة بالمصادفة؟
إم إنه النقص في العقل القومي، في الوعي بحقيقة الذات، أم تراها الكراهية العمياء للعلم والتقدم، أم هي خطة التجهيل وإغراق أجيالنا القادمة في الظلام بينما الإنسان الغربي يسوح في الفضاء الخارجي فوقنا؟!
كلهم كانوا يوجهون نيرانهم إلى صدر جمال عبد الناصر، إلى صدرك أنت وصدر ابنك، إلى صدور آبائهم هم وأبنائهم هم، إلى أحلامهم بالذات، إلى نور الشمس وضياء القمر وانعكاس شراع مركب فيه عاشقان يتهادى على صفحة النيل.
كلهم قصفوا أعظم رمز عربي، وأعظم إنجاز عربي في لبنان،
كأنهم مع الأجنبي ضد العرب، مع الجهل ضد العلم مع التخلف ضد التقدم،
كأنهم هم.. أصحاب الأسماء المضحكة التي تعرفون.
.. ولو كانت الأمة بخير لما اجتمعت مدافع هؤلاء جميعاً وبنادقهم ضد جامعة، وجامعة عربية، وجامعة للفقراء (وهم في الأصل منهم)،
ولو كانت هذه الأحزاب والتنظيمات تعبر حقيقة عن مطامح الناس أو عن مصالحهم لربت هؤلاء “القادة الميدانيين” على احترام الإنسان والعلم والرموز الحضارية ومنارات التقدم الاجتماعي،
فهؤلاء الفتية هم أيضاً بين الضحايا،
ولذلك فقد كانوا ينتحرون، وهم لا يدرون، حين وجهوا رصاصهم إلى أعز قيمة في حياتهم: اسم جمال عبد الناصر وإنجازه القومي العظيم في لبنان.
كان يا ما كان،
كانت الشوارع المهجورة مرتعاً للحقد وصراعات الغرائز والممارسات الشاذة للصغار الذين يزعجهم وجود أي كبير، وأي شيء كبير.
كانت المدينة في قبضة الأشباح والنكرات يجلدونها ألف جلدة في الدقيقة، يمتهنون كرامتها وكرامة الناس فيها، ينهبون بيوتها ومخازنها، يسرقون حلى النساء واسرة الأطفال، ويقتلون من يتعرف عليهم من ضحاياتهم (حتى لا ننسى الثنائي الظريف العاشق العظيم للحياة فاروق ورشا نجار)
كانت المدينة أميرة للحزن يجتاحها وباء خطير، يمنع على الوردة أن تنشر عطرها، على الياسمينة أن ترمي زهرها على عابري السبيل ، على المنارة أن تبث ضياءها لتهدي السارين ليلاً،
.. وها هو عهد الظلم والظلام، عهد الحقد والغرائز المهيجة، عهد التشبيح والقتل والخطف والنهب، يطوي “رموزه” ويهم بالرحيل،
وأكد إننا سنعيد إلى عبد الناصر اعتباره، لكي نكون جديرين بأن نحترم أنفسنا، ولكي نبقي الفرصة مفتوحة أمام أبنائنا كي يتعلموا فلا يتخرجوا من ميليشيات الطوائف والمذاهب قتلة وخطاة كالذين وجهوا مدافعهم وبنادقهم إلى صورة الغد، إلى الكتاب والفكرة والحرف، إلى الوردة والعطر، على الإنسان فينا وفيهم.
بحث
Subscribe to Updates
Get the latest creative news from FooBar about art, design and business.
المقالات ذات الصلة
© 2024 جميع الحقوق محفوظة – طلال سلمان