بعد عشرة أيام طويلة من “المونولوغات” الطائفية التي تم أداؤها كوصلات من العزف المنفرد، بدا أمس وكأن “الحوار” بين الطوائف على وشك أن يبدأ حول صيغة مستقبل التعايش في ما بينها ضمن نظام واحد لجمهورية واحدة… برلمانية ديموقراطية!
والكل متفق على إن فترة “التمهيد” و”تهيئة الجو” و”توفير المناخ الصحي” قد تجاوزت الحد، فتسببت في أن يتحول النقاش إلى ما يشبه المماحكمة والاستعراض وتوكيد الذات على حساب الموضوع،
بل لقد تصرف بعض البرلمانيين اللبنانيين المؤتمرين في الطائف وكأنهم في إجازة مفتوحة تتخللها لقاءات “اجتماعية” للتسامر ووصل ما انقطع من أواصر الصداقة الشخصية النافية لوجود “أزمة” لبنانية – لبنانية، وبالتالي لوجود ما يستدعي العلاج بالاصلاح في بنية النظام السياسي الفريد.
وكان ضرورياً لمباشرة “الحوار” أن يسمع ممثلو الطوائف كلاماً صريحاً من اللجنة العربية الثلاثية، بلسان الأمير سعود الفيصل، مفاده أن لا بد مما ليس منه بد، وإن التطويل أمر مسيء، وإنه لا بد من الانتهاء من بند الاصلاح السياسي بأسرع ما يمكن لأنه هو الموضوع، مؤكداً – مرة أخرى – للبرلمانيين أن بند السيادة هو موضوع اللجنة والدول التي تمثلها أو المفوضة منها أو المؤيدة بتأييدها العلني.
ولقد وجدت اللجنة العربية نفسها في حرج شديد نتيجة لعوامل عدة منها:
*إنها لا تريد أن تبدو وكأنها تضغط على البرلمانيين وتحاول التأثير على مواقفهم بحيث يقولون مستقبلاً، وإذا ما اتهموا بالتقصير أو بالإخلال في ما كلفوا به: – اسألوا اللجنة العربية! لو إنها أعطتنا الوقت الكافي (وربما الحرية!) لتوصلنا إلى النتائج المرجوة، لكنهم كانوا يتعجلوننا الإنجاز فما كان بالإمكان أبدع مما كان!
*إنها تقدر قيمة الوقت وإمكان توظيفه سلباً وغيجاباً واستخدامه من ثم ضد اللجنة ومهمتها، وضد البرلمانيين اللبنانيين ودورهم، واستطراداً ضد الحل العربي… فظروف لبنان الراهنة ولادة للمشكلات والاشكالات التي قد تضع مزيداً من العراقيل في طريق ما يفترض أن يتم التوافق عليه في الطائف.
*إنها معنية بإتمام الخطوات التالية في تصور الحل في أقرب موعد ممكن، وهذا يستدعي ضرورة التعجيل في مباشرة العمل مع “الأطراف الغائبة – الحاضرة” المرابطة في بيروت بشرقها وغربها وصولاً إلى دار المختارة ودير القطارة.
وشتان بين أن تنطلق اللجنة للقاء هذه الأطراف وهي مسلحة بوثيقة توافق وطني بين الأكثرية الساحقة من البرلمانيين اللبنانيين الذين استضافت حوارهم لمدة أسبوعين، وبين أن تذهب إليهم فارغة اليدين طالبة المساعدة على مجرد السماح بتلاقي هؤلاء البرلمانيين في مكان ما لكي يبدأوا الحوار… فكيف بالتالي يكون انتخاب الرئيس الجديد، ومتى، وبأية شروط؟!
*إنها استكملت عدتها ممثلة بالاتصالات، عربياً ودولياً، لاستنفار التأييد لخطتها، وباتت هي المطالبة بالإنجاز، إن تأخر اتهمت بالتقصير، وإن ضاعت الفرصة (لا سمح الله) لأي سبب طارئ حملت المسؤولية عن ضياع ما لا يعوض.
*إنها بنجاحها في تنفيذ الخطة الأمنية قد حاصرت المشكلة وحصرتها في إطارها الصحيح: في ما هو خلاف سياسي بين اللبنانيين على النظام وصيغته، أما ما عدا ذلك، والوجود السوري ومدته ومداه ضمناً، فمن النتائج وليس من الأسباب.
بمعنى إن التوافق على الشأن السياسي الداخلي، الاصلاح وإعادة صياغة النظام السياسي، يستتبع بالضرورة التوافق على الهوية والانتماء وطبيعة العلاقة مع سوريا، وتحديد الدور في الصراع العربي – الإسرائيلي.
كان في تصور اللجنة إنه من الضروري إنهاء الوضع الشاذ القائم في لبنان، والمعطل لأي توافق على حل، بل حتى على هدنة صلبة، وذلك بالتعجيل في خلق الظروف الملائمة لانتخاب رئيس جديد للجمهورية وقيام حكومة مركزية قوية على قاعدة برنامج واضح لإصلاح الخلل الفاضح في النظام السياسي القائم.
إذن لا بد من التوافق على إنجاز الاصلاح،
إذن فلا مجال للاستمرار في إضاعة الوقت في مناقشة لا طائل تحتها حول الوجود العسكري السوري أو مستقبل العلاقات مع دمشق،
إذن فلا مجال من حسم الموقف من استمرار وجود الجنرال ميشال عون حيث هو، لأنه بوجوده يعطل الخطوات اللاحقة.
ولقد أعاد “الجنرال” تأكيد دوره كمعطل عبر اتصالاته مع بعض النواب في الطائف، ثم – وهذا هو الأهم – عبر رده على الرسالة التي كان بعث بها إليه الملك فهد بن عبد العزيز (وبعث بمثلها إلى الرئيس سليم الحص).
وبرغم التكتم الشديد حول مضمون رد النرال، فقد فهم أعضاء اللجنة من “لهجة” الأمير سعود الفيصل ما يكاد يفيد بالندم على توجيه الرسالة.
ولقد وجدها الجنرال فرصة لكي يرفع درجة الحدة في صوته وهو يخاطب من اتصل به من النواب: – لكم أن تقرروا ما تشاؤون، ولكنني ماض في موقفي حتى النهاية، فالانسحاب هو الموضوع وليس الاصلاح… ولقد كنت أتمنى أن تساعدني اللجنة، وأن تساعدنا الملك فهد في معركتنا للتحرير، إذا كانوا فعلاً حريصين على لبنان، ووحدته وسلامته والسيادة.
“إنهم يوجهون إلينا النصائح حول أهمية الوفاق، ولكنهم يتجاهلون قضيتنا الأصلية.
“ثم إنهم يطلبون أن أمحضكم ثقتي ودعمي، وأنا لا أعرف بالضبط ما تفعلون، ماذا أنجزتم مما يتصل بالانسحاب السوري، وماذا بقي عليكم أن تنجزوه. إن الناس ينتظرونكم هنا ليعرفوا هل كنتم بمستوى الأمانة أم لا، فلا تنسوا هذا..
“وأخيراً، فإنني ما زلت على تأييدي للجنة العربية الكريمة، ولكن دورها كما أفهمه أن تؤكد حرص العرب على لبنان وحقه في بسط سيادته على أراضيه، أما شأننا الداخلي فهو لا يخص أحد غيرنا، والاصلاح كلمة حق يراد به باطل، فهو شعار للتمويه على حقيقة القضية أي تحرير لبنان من السوري..”
بين النواب من لم يكن بحاجة إلى التحريض المتجدد يصدر عن الجنرال،
وهؤلاء كانوا يقومون، حتى قبل أن يتحدثوا إلى الجنرال، بدورهم المعطل على أكمل وجه: فهم كانوا يبتدعون أسباباً تفصيلية للخلاف، إن لم يجدوا أسباباً كافية في النص الذي بين أيديهم، أضاعوا، وفرضوا على الآخرين أن يضيعوا وقتاً طويلاً في مناقشة الشكل، ثم اندفعوا في مناقشة لا تنتهي حول كل نقطة من النقاط المتضمنة في بند الاصلاح السياسي.
وللانصاف فقد وجد هؤلاء من يكمل دورهم، في الجهة الأخرى، وإن اختلفت المنطلقات، لكن الذرائع كانت في الحالين طائفية، حقوق الطائفة، رفع الغبن عن الطائفة، توفير الضمانات الكافية للطائفة الخائفة الخ.
كان الطائفي من هنا يستنخي أو يستنفر أو يستفز الطائفي من هناك، فتحتدم المناقشات وتصطدم بالجدار… فيكون ضرورياً أن يتدخل العقلاء، ثم أن يسعى العقلاء إلى اللجنة العربية طالبين منها التدخل لتذليل الاختلال بين “الزميلين”، حتى يمكن تجاوز “العقبة الطارئة”.
وكانت ثمة جهات كثيرة، في بيروت وفي العواصم البعيدة، “على الخط” تزود كل من فرغت جعبته من الحجج الطائفية بالمزيد غير المستهلك،
ثم كان هناك “شبح” الجنرال المخيف!
“- من فضلكم قدروا ظروفنا؟! إن الجنرال ينتظرنا للمساءلة والحساب. رجاء لا تحرجونا معه. إننا نريد أن ننجز، لكن اضمنوا لنا أولاً موافقة الجنرال. اسعوا أنتم، وتحدثوا إلى الأصدقاء الكبار في العالم لكي يساعدوكم على الجنرال، فهو عنيد،ثم إن “الشارع” معه، ونحن أضعف من أن نواجههما معاً، خصوصاً وإنهم سيتهموننا بخيانة مصالح الطائفة وحقوقها والتفريط بموقعها الممتاز”.
الجنرال يرمي “كرة النار” على النواب في الطائف، محذراً تاركاً لبعض “الأنصار” أن يرفعوا نبرة التحذير إلى مستوى الإنذار بالحساب العسير،
والنواب هنا يتذرعون بالجنرال ليتجنبوا الدخول في حوار جدي حول الاصلاح كما ورد في الوثيقة، بعدما سحب بند السيادة من التداول ومن الاستهلاك!
هل كان من الضروري أن يكتب الملك فهد إلى الجنرال؟!
هل ارتأى أن يضم صوته إلى جهد اللجنة، حتى لا تبقى للجنرال حجة إن هو استمر في محاولته تعطيل دور البرلمانيين ومن ثم مشروع الحل العربي، الذي يدخل حيز التنفيذ الفعلي بخروجه هو شخصياً من ملجأ القصر الجمهوري في بعبدا؟!
بين المراقبين من يرى إن الجنرال “أعطي حقه” وزيادة، وإن أية محاولة جديدة معه لا تفعل غير ترسيخ أوهامه بأنه “قدر لبنان”، وبأنه صاحب الكلمة الفصل في وجوده، وليس فقط في طبيعة نظامه وصلاحية هذا النظام للحياة أو قدرته على أن يوفر للناس أبسط شروط الحياة اللائقة في ظله الوارف.
وبين المراقبين هنا من يرى إن “المتشددين” من النواب، إنما يحاولون توظيف “تشددهم” لأغراض ومصالح شخصية أو طائفية معروفة، وإنهم – بالتالي – لن يبدلوا ولن يغيروا موقفهم المتعنت والمعطل إلا إذا تحدثت إليهم اللجنة “بلطف” كالذي هم به الأمير سعود الفيصل أمس الأول، والذي ربما كان الأعضاء الآخرون في اللجنة (لاسيما الجزائريون) يتقنونه أكثر،
على إن المؤكد إن قرار اللجنة قد اتخذ بالفعل: هذا الأمر يجب أن ينجز في موعد أقصاه يوم بعد غد (الخميس)، مهما كلف الأمر.
واللجنة في جو إن “المعركة” الفعلية هي نقل هذا “الكلام على الورق” بعد التوافق عليه بين البرلمانيين هنا في الطائف، إلى قرارات نافذة في بيروت،
واللجنة تعرف أن عشرات المشكلات الجدية تنتظرها في العاصمة اللبنانية الممزقة شطرين مسورين بالميليشيات المسلحة بالمدافع والصواريخ والحساسيات الطائفية السريعة الالتهاب.
تعرف إن اجتماع النواب، بحد ذاته، مشكلة جديدة، وإن إقدامهم على تنفيذ ما لا بد أن يتوافقوا عليه هنا تعترضه عقبات كأداء لا بد من علاجها بحزم وبسرعة وإلا أجهضت المحاولة وضاعت الفرصة الأخيرة حيث يجب أن تولد.
تعرف إن المكان مشكلة، وإن الزمان مشكلة، وإن الحماية مشكلة، وإن شخص الرئيس العتيد مشكلة، وإن صيغة الحكومة المركزية القوية العتيدة مشكلة، بل لعلها تختزل بعض أخطرإفرازات الحرب الأهلية في لبنانز
من هنا حرص اللجنة العربية الثلاثية على النجاح الكامل هنا في الطائف،
فالنجاح هنا نموذج يحتذى، بأسلوبه ومنهجه، للنجاح في بيروت.
وطالما إن “الفشل ممنوع” فلا بد من علاج جدي للشبح الذي يستولد أسباباً جديدة للصراع على المغانم والأسلاب بين الطوائف، كلما نجحت اللجنة في أن تفرض على البرلمانيين، أو بعضهم، أن يستذكروا الوطن، وإن التنازلات مطلوبة من الجميع ولحساب الوطن وليس لحساب فئة بالذات، خائفة أو مخيفة، غابنة أو مغبونة، قاهرة أو مقهورة، مع الإشارة إلى أن الطوائف جميعاً باتت تتمتع بالصفات المذكورة أعلاه مجتمعة.
وستبقى تتمتع بها طالما غاب مشروع الوطن وغيبت جمهوريته القديمة – المجددة بنظامها الفريد مع شيء من التعديلات الطائفية، لزوم الاستمرار والدوام كما وجه الله، إلى أبد الأبدين.
بحث
Subscribe to Updates
Get the latest creative news from FooBar about art, design and business.
المقالات ذات الصلة
© 2024 جميع الحقوق محفوظة – طلال سلمان