من أقصى المغرب إلى أقصى المشرق يهدر نهر الدم العربي المسفوح وهو يحفر أخدوداً عميقاً من الكراهيات والأحقاد والأخطاء وينشر رائحة الموت والحريق واليباس واليأس في كل أرض،
لكأنه قرار بالانتحار الجماعي، وعلى مستوى الأمة، بمعظم أنظمتها والعديد من المنظمات الفاعلة والقادرة على إيذاء الذات.
وفي حين تدوي أنباء الصفقة – الفضيحة التي تتم فصولها علناً في واشنطن بين الإدارة الأميركية (الجديدة) وحكومة “السلام” الإسرائيلية، يستمر الاقتتال العربي – العربي وكأنه بين التمهيدات اللازمة لتلك الصفقة أو بين مبرراتها كما بين نتائجها المبكرة.
العنف العبثي. الانتحار الجماعي. العمى السياسي. العجز المطلق عن التغييير. الضياع عن الهدف الصحيح. الاندفاع المحموم إلى قتل الذات بالتنازل حتى لا يسبق الآخر فيكسب الرضا بوصفه الأعظم تفريطاً.
لكأنها عملية إبادة جماعية منظمة لقدرات البلاد وإمكاناتها، سواء منها المادية أو البشرية، العلمية أو الفكرية، الاقتصادية أو السياسية، بحيث يصبح العجز المطلق عذراً للاستسلام المطلق ومسوغاً لرجوع عصر الاحتلالات والانتدابات والحمايات والوصاية الأجنبية.
هل هو العقم أم الإفلاس أم الارتهان ام احتقار الأمة ووعيها وتراثها الحضاري ونضالاتها من أجل أهدافها المشروعة في الحرية والتقدم والديموقراطية والعدل الاجتماعي؟!
لكأنه صراع بين الأعظم تخلفاً في كل قطر عربي: الأنظمة غير الشعبية ذات الجذور الدكتاتورية والقوى الظلامية التي تستغل الدين وتتوسله سبيلاً لتحقيق أغراض سياسية لا تختلف في المضمون عن تلك التي تزعم الأنظمة إياها بأنها تعمل من أجلها؟!
ولنأخذ مثالاً في ما يجري في مصر ولها.
إن طرفي “الصراع”، أي نظام الحكم والفئات التي تناهضه تحت راية “الأصولية”، لا يفعلان إلا تحطيم مصر، والتسبب في إفقارها أكثر وهي التي أذلها فقرها، وتشويه صورة إنسانها تحقيره وإلغاء دوره تماماً وحصره أمام خيار بائس بين أمرين كلاهما مهين: أما الهجرة والاندفاع يأساً إلى أي أرض تقبله “كأجير” بلا جذور، وإما الاستكانة إلى حد الموت وتعطيل نفسه والخروج من دائرة الفعل كلياً، في انتظار أن ينجلي غبار المعركة عن فائز ومهزوم وكلاهما، يجيئه من موقع العداء ويعتبره معادياً أو متخاذلاً فينكل به شر تنكيل.
إنه صراع خارج السياسية.
إنه صراخ خارج احتياجات المجتمع وتطلعاته.
فلم يكن القتل في أي يوم، وكائناً من كان القاتل، سبيلاً مشروعاً للتغيير والتطوير وإحقاق الحق ونصرة المظلوم وإقامة العدالة وتوفير الرغيف للجياع.
ولم يكن القتل في أي يوم دليلاً على هيبة الحاكم وشرعية الحكم أو تعبيراً عن إيمانه بالديموقراطية واحترامه لحقوق الإنسانز
إنه صراع خارج “الشعب” وهمومه، بقدر ما هو خارج “الدين” وقيمه.
وبديهي ألا يجد “الشعب” لنفسه مكاناً داخل حومة الصراع، وألا يجد نفسه معنياً بالانحياز إلى أي طرف، لاسيما إلى من يفترض أن يكون “الطرف المعارض” والعامل لتغيير النظام.
وبديهي بالتالي أن تنتهي مثل هذه المعارك بهزائم جماعية: للبلاد أولاً وشعبها، وللدولة فيها، باعتبارها ضمانة الوحدة والحصن الأخير للنظام أو للسلام الاجتماعي، ثم لأطراف الصراع نفسها التي سيكون “المنتصر” فيها أبأس من “المهزوم” وأكثر استفزازاً للناس بسبب من عجزه عن حل المأزق السياسي إلا بالدم الذي يتحول بدوره إلى نفق مسدود تتوالد فيه المآزق والمشكلات بلا نهاية.
والمنتصرون الفعليون يعلنون عن أنفسهم بصراحة، ويقفون مبتسمين – للصورة التذكارية –وهم يعتلون جثث هؤلاء الذين يقتتلون عبثاً في بر مصر، أو في جزائر المليون شهيد أو في فلسطين التي يراد لها أن تظل على قائمة الشهداء من دون أن تتعرف إلى الحياة الطبيعية.
إن الصفقة الأميركية – الإسرائيلية الجديدة هي محصلة أولية لهذا الوضع العربي الذي تماهت فيه الحدود بين القاتل والمناضل وبين الحاكم والجلاد، واستطراداً بين الخصم السياسي والعدو القومي.
ولولا الحروب الأهلية العربية التي تستعر في مخت ل ف أنحاء الوطن العربي، لما أمكن لمثل هذه الصفقة، التي ستليها صفقات، أنتمر وبهذه البساطة، فتنتقل الولايات المتحدة من “راعية لمفاوضات السلام” إلى “شريك كامل” للطرف الإسرائيلي فيها، تتعهد له بأن تحميه من “المجازفات” في هذه المفاوضات التي لا يعرف العرب طريقاً للخروج منها مع أنهم يفقدون تدريجياً مبررات وجودهم فيها.
إن الأمة كلها مهددة بالغرق في نهر دمها المسفوح.
إن الجزائر على طريق الضياع،
ومصر المحروسة تكاد تفقد حصانتها نتيجة انعدام الحوار السياسي فيها وسيادة لغة الرصاص والقتل اليومي واغتيال مكوناتها الحضارية جميعاً.
وفلسطين، أو ما تبقى منها، مهددة بحرب أهلية متعددة الجدبهات، في غزة بداية، بين “حماس” و”فتح”المنظمة، ثم بين الضفة الغربية وقطاع غزة، إضافة إلى الحرب شبه المعلنة بين “الداخل” و”الخارج”.
إن الرصاص يلعلع فارضاً الخرس على الجميع، بين “الطرف الواحد” في الداخل،
لكن هذا الرصاص يفتح أبواباً مواربة لكل فئة ولكل تنظيم ولكل مجموعة لكي تسعى إلى “محاوره” العدو في الخارج، كيداً لخصومها في الداخل، وانتقاماً من أولئك الذين حاولوا أن يسبقوها إليه.
إن تعطيل الحوار السياسي في الوطن العربي ليس جريمة فحسب، بل إنه في منزله الخيانة العظمى،
فمن يفتح باب الحوار؟!
من هو المؤهل للتصدي لمثل هذه المهمة التاريخية الجليلة؟!
إن الدم المهدور يغطي برذاذه وجوه الناس جميعاً، حتى يكاد ينتفي من بينهم البريء،
فمن يوقف حمام الدم هذا الذي لن يوفر “عربياً” ولو كان في أقصى الأرض؟!
من يجرؤ على مواجهة رصاص الجنون بما هو أقوى منه وأفعل: بإلزام الأطراف جميعاً مباشرة الحوار، قبل أن يدهمهم خطر الصمت الطويل في ظل احتلال سيكون مع نهاية هذا القرن أبشع من ذاك الذي عرفته أقطار الأمة في بدايته، بل وعلى امتداد قرون الانحطاط السوداء؟!
إن القادر على فتح باب الحوار هو المؤهل لقيادة الأمة، أما الهارب منه إلى القتل في الظلام فإنه يحكم على نفسه بالهزيمة سلفاً حتى لو أخرس بإرهابه الناس جميعاً لبعض الوقت.
حمى الله أرض الكنانة.
حمى الله فلسطين،
حمى الله آخر العرب في كل أرض عربية!
بحث
Subscribe to Updates
Get the latest creative news from FooBar about art, design and business.
المقالات ذات الصلة
© 2024 جميع الحقوق محفوظة – طلال سلمان