صباح الخير، اليوم، من قصر العدل وقد أرسلنا إليه متهمين، بل مدانين سلفاً بما يمس الوطنية وشرف المهنة، فعدنا منه أكثر ثقة بالقضاء، كحصن حصين للعدل وضمانة أكيدة للديموقراطية والحريات العامة وفي الطليعة منها حرية الصحافة، حرية التعبير والقول، حرية الاختلاف مع الحاكم، وحق المواطن في أن يعرف.
صباح الخير وقد تهاوى الاتهام الظالم، وتكشف القعر السياسي للقرار الهمايوني بتعطيل “السفير”، الذي استصدرنه السلطة من النيابة العامة في 12/5/1993، فبرأ القضاء نفسه من أن يكون أداة، وأعاد الاعتبار إلى مؤسسته العريقة وإلى دوره الذي لا غنى عنه ولا بديل عنه في حماية النظام الديموقراطي وحقوق المواطن وكرامته.
شجاعاً كان ممثل النيابة العامة، ممتلئاً بحلم تجسيد العدل، حين وقف مع انعقاد محكمة المطبوعات لمحاكمة “السفير”، ليعلن تراجع النيابة العامة عن الادعاء على “السفير” بموجب المادة 12 من المرسوم الاشتراعي 104، مسقطاً صفة السرية عن ورقة العمل الإسرائيلية – موضوع الدعوى – التي كانت “السفير” قد نشرتها يوم 11/5/1993، ناسفاً بالتالي أساس الادعاء واستطراداً أساس القرار المتعسف بتعطيل “السفير” سبعة أيام.
قبله كان قاضي التحقيق قد أسقط من قرار إحالة “السفير” إلى المحاكمة اتهاماً مزدوجاً بجريمتين خطيرتين، أبسطهما التجسس، استناداً إلى بعض مواد قانون العقوبات (المادتان 281 و283).
وهكذا وبعد “تحرير” القرار القضاء من الغرض السياسي لم يعد ثمة ما تؤاخذ عليه “السفير”، فكيف بتعطيلها استباقاً لمحاكمتها، وقد ثبت أمس أنها غير ذات موضوع.
ولقد عاد القضاء والصحافة إلى الموقع الصحيح: كلاهما ضحية القرار السياسي المتعسف، أو للكيد السياسي، ولا مشكلة في ما بين هاتين المؤسستين المتكاملتين حكماً واللتين تتكاتفان بالضرورة وهما تعززان الطبيعة الديموقراطية للنظام، من خلال ممارسة الرقابة والتنبيه إلى الخطأ أو المساعدة على منع التورط فيه.
والحمد لله على أن القضاء ما زال قادراً على كبح جماح الخطأ.
والحمد لله على أن الحس الديموقراطي عند اللبنانيين ما يزال مرهفاً بحيث يصعب إلى حد الاستحالة قيام دكتاتورية فيه، عسكرية كانت أم ميليشياوية أم مالية.
والنصر المعنوي الذي تحقق بالأمس، والذي يفترض أن يتكلل بالحكم النهائي في الثالث من آب المقبل، أعظم من أن نضيعه بالشماتة والكيدية والتباهي على صاحب القرار المتعسف والذي أوصله الظلم إلى حيث لم نكن نريد له أن يصل، فمد يده إلى جبخانة القوانين الاستثنائية والتي أملتها ظروف استثنائية افترض أنها قادرة على تبرير الاستبداد، فكانت الاستعانة بالمرسوم 104 السيء السمعة.
ومع الشعور الغامر بالسعادة لأن كلمة الحق قد ارتفعت بالأمس أمام محكمة المطبوعات، فإننا نتمنى أن يكون هذا الذي وقع لـ “السفير” درساً بليغاً للسلطة يمنعها من التوغل في طريق الخطأ، بالقمع والقهر وكبت الحريات ومحاولة تسصخير القضاء لأغراضها.
ومرة أخرى، إنها حرب لم نسع إليها، ولم نطلبها، ولم نكن نريدها، ولم ندخلها إلا مضطرين، واكتفينا بخوضها من موقع الدفاع المشروع عن النفس، وعن الحقوق الطبيعية للوطن وصحافته ومواطنه.
وها هو القضاء يتحرك لنصرة قضية الحريات، مفسحاً في المجال أمام السلطة السياسية لكي تمارس شجاعة الاعتراف بالخطأ والتراجع عنه.
فليس في ارتكاب الخطأ أية شجاعة، إنما الشجاعة في منع وقوعه، أو في الاعتراف بوقوعه إذا ما وقع والتراجع عنه فوراً ودون أي اعتبار لهيبة السلطة أو جبروت السلطان.
فالهيبة تجيء مع الحق والعدل والصح واحترام حقوق المواطنين وكراماتهم وتذهب بذهاب هذه القيم.
خصوصاً وإن الحق يعلو ولا يعلي عليه، وإن البراءة تدافع عن نفسها، وفي الأولى ضمانة القضاء، و في الثانية ضمانة “السفير” والصحافة، وفي هذه وتلك ضمانة النظام الديموقراطي.
بحث
Subscribe to Updates
Get the latest creative news from FooBar about art, design and business.
المقالات ذات الصلة
© 2024 جميع الحقوق محفوظة – طلال سلمان