إذا كان العرب يذكرون للملك الراحل فيصل بن عبد العزيز آل سعود موقفه من إسرائيل الذي بلغ ذروة فعاليته في حرب رمضان، فإنهم لا يمكن أن ينسوا إنه شكل ولفترة طويلة أحد أقوى خصوم حركة الثورة العربية.
كانت مواقفه كلها تنطلق من فهمه الخاص للدين ودوره، وهو دور يراه أكبر وأهم بكثير من دور “القومية” التي لم يستطع أن يراها منفصلة عن التقدم وإرادة التعبير وروح الثورة، أي الشيوعية، أي الالحاد والكفر، ومن هنا فقد ظل ينفر منها ويتجنب استخدامها مفضلاً عليها التعبيرات ذات النفحة الدينية أو ذات الدلالة التضامنية التي تكاد ترادف العشائرية والقبلية.
القدس هي الأهم في فلسطين،
والمسجد الأقصى هم الأهم في القدس،
والأمنية انحصرت، أخيراً، في الإطار المنطقي لملك مثلهن يحمل تراث الوهابية ويلتزم بحدود تشددها وله هذا الفهم المحدد للقومية: أن يصلي في المسجد الأقصى بعد تطهير الأرض من رجس المحتل.
كان فيصل الفلسطيني مسلماً يقاتل يهوداً أكثر منه عربي يقاتل ثالوث أعداء أمته المتجسد مادياً في كيان دولة إسرائيل، أي الاستعمار والصهيونية والإمبريالية. وكانت له القدرة على الفصل الكامل بين الصهيونية وتوأميها عبر المفهوم الديني الخاص للقومية: القضية قضية جهاد لنصرة دين الله، ولتحرير أول الحرمين وثاني القبلتين.
كانت إسرائيل بالنسبة إليه يهودا أما أميركا فلا (ومثلها بريطانيا وفرنسا وهولندا الخ)،
وهو مستعد لمقاتلة اليهود في إسرائيل، ولمخاصمتهم في أميركا، ولمنعهم من دخول المملكة، مبدئياً، لأي جنسية انتسبوا،
ولذا ظل حتى آخر أيامه مؤمناً بأن الصلة بين أميركا وإسرائيل ممن فصمها وممكن قطعها إذا استطاع العرب إقناع “الأميركان المؤمنين” بحقهم في فلسطين، ومرة أخرى حقهم كمسلمين وكمسيحيين وليس كشعب عربي دبرت ضده الصهيونية – بمساعدة الاستعمار ومساندته – مؤامرة لتشريده واحتلال أرضه تمهيداً لاحتلال كل الأرض العربية، لو توافرت لها القدرة لتحقيق أحلامها الإمبراطورية الاستعمارية المتسترة بثوب الأسطورة الدينية.
ومستحيل أن يفسر موقفه من أميركا بغير دلالته الحقيقية: إنه تحالف مع زعيمة المعسكر المعادي للثورة في العالم، كل العالم، خاصة الوطن العربي ومنه السعودية وفيه.
وبعد حرب 1967 والانحسار الذي شهدته حركة الثورة العربية، أخذ دور الملك فيصل باعتباره زعيم المعسكر الآخر، المقاتل ضد الثورة في سوريا وفي اليمن وفي مصر ذاتها، يتعاظم، وأخذت مفاهيمه للتضامن العريب وللعمل السياسي العربي تراعى أكثر فأكثر.. ثم بعد رحيل جمال عبد الناصر تكرست لهذه المفاهيم سيادة شبه كاملة على المنطقة العربية برمتها.
بهذا المعنى فإن غياب الملك فيصل يترك المجال فسيحاً للاحتمالات جميعاً،
إن المنطقة بلا فيصل ليست هي ذاتها المنطقة بفيصل، المحنك، صاحب التاريخ الشخصي الحافل بالتجارب والمرارات، المؤهل تماماً لزعامة المعسكر الذي ينتمي إليه طبقياً وفكرياً وسياسياً.
لقد غدا هذا المعسكر الآن بلا زعيم،
ولو إن حركة الثورة العربية أفضل حالاً مما هي عليه لكان هذا مكسباً كبيراً لها. لكنها هي الأخرى، وإلى حد كبير، تفتقد الزعامة التاريخية ووحدة القيادة، ومن هنا فإن قدرتها على توظيف الفراغ لمصلحتها ستظل محدودة.
والمؤكد إن أميركا ستكون أكثر قدرة الآن على التحرك في المنطقة بعد رحيل حليفها الكبير،
فلقد كان فيصل حليفاً، وحليفاً قوياً، ومن هنا كانت له شروطه الخاصة وكان له مستواه في التعامل.
أما الآخرون في المعسكر السعودي فلم يكونوا، ولن يصيروا حلفاء لأميركا، بل هم فعلاً وسيظلون في مرتبة أدنى بكثير من مرتبة الحليف.
ومصلحة أميركا في غياب فيصل أوضح من أن تخفيها تصريحات الأسف الأميركية.
بحث
Subscribe to Updates
Get the latest creative news from FooBar about art, design and business.
المقالات ذات الصلة
© 2024 جميع الحقوق محفوظة – طلال سلمان