بعد الاطمئنان إلى الدعم الأميركي الكامل فتحت إسرائيل خياراً ثانياً أمام الفلسطيني وهو الموت قتلاً فوق أرضه طالما أنه “معترض” على اقتلاعه منها!
وإنها لحرية واسعة في الخيار بين أن تموت مقتولاً في الداخل، أو تموت ببطء في عراء الخارج.
ويمكن اعتبار الشهداء الفلسطينيين الجدد الذين سقطوا في غزة، أمس، ومعهم الجرحى، أولى ثمار الضغط الأميركي على “الشرعية الدولية” للامتناع عن معاملة إسرائيل كدولة عادية رفضت قراراً بالإجماع فتعاقب بإرغامها على تنفيذه.
حتى وهي في منزلةالقاتل تظل إسرائيل فوق الشرعية الدولية وفوق مبدأ العقوبات وتمنن واشنطن “أصدقائها” العرب بأنها قد نجحت في انتزاع تراجع من رابين العنيد ثم تدعوهم إلى استئناف المفاوضات وكأن ما حدث مجرد أمر عارض لا أهمية أو لا تأثير له على مجرى “العملية السلمية”.
بالمقابل تهدد واشنطن الطرف المقتول بتصنيفه إرهابياً لتفرض عليه حظراً قد يضطره إما إلى التنازل وإما إلى الاندفاع قدماً في خط الصدام مع منظمة التحرير (والتي رفع عنها الحظر) بحيث تدخل الأرض الفلسطينية المحتلة أتون الحرب الأهلية.
هذا مع التنويه بأن المائة وواحداً من المقتلعين الذين أعادت إسرائيل النظر في طردهم هم مجموعة العاملين في وكالة غوث اللاجئين الأونروا – وهي إحدى المنظمات المنبثقة عن الأمم المتحدة (صاحبة القرار 799 الذي لم ينفذ).
مرة أخرى تجلس “الأصولية اليهودية” على منصة القضاء وتفرض على العالم أحكامها، في حين يدان أي مدافع عن أرضه ويصنف إرهابياً لمجرد إقدامه على الصلاة (كأنما الأصوليون وحدهم هم المصلون).
وها هم مجاهدو فلسطين في غزة الباسلة: بعضهم يقضي نحبه شهيداً برصاص المحتل الإسرائيلي وظلم ذوي القربى وتعامي المجتمع الدولي عن قضيتهم العادلة، وبعضهم الآخر ينتظر في مرجع الزهور.
ومرج الزهور ليست ساحة للتفاوض، ولكنها قد فرضت نفسها كمحطة على طريق “مؤتمر السلام”،
وإذا كان “الأصولي الإسرائيلي” قد فرض أمراً واقعاً جديداً على الراعي الأميركي لذلك المؤتمر، فإن الحد الأدنى من التضامن العربي قادر على كسر هذا التعنت و”تحرير” الإدارة الأميركية الجديدة من هذا الشرط اللاغي للمؤتمر العتيد.
وإذا كانت إدارة كلينتون قد اضطرت إلى التقدم إلى منتصف الطريق، تحت وطأة شعورها بثقل الضغط الإسرائيلي الجارح لكرامتها، فإن بعض الصلابة في الموقف العربي من شأنه أن يقلب السحر على الساحر، فترتد عملية الاقتلاع – المرفوضة دولياً – على من اتخذ القرار وفرضه بالإكراه على العالم.
حتى “نيويورك تايمز” المعروفة بانحيازها لإسرائيل لم تجد بداً من التسجيل أن أيام الفيتو الأميركي المضمون قد ولت، وإن على الدبلوماسية الأميركية أن تمارس ضغوطها على إسرائيل لكي لا تلجأ من جديد إلى مثل هذه الإجراءات.
أما صحيفة “يو. أس. تو داي” فترى أن موقف المقتلعين قد رد التحدي برفضهم العرض الإسرائيلي وألقوا بذلك ظلالاً من الشك حول احتمالات استئناف المحادثات العربية – الإسرائيلية”.
في حين حملت “الفايننشال تايمز” البريطانية إسحق رابين مسؤولية تعقيد الإمكانات المتاحة لاستئناف “مفاوضات السلام” إذ أن تعنته سيعزز الرفض الفلسطيني للعرض الإسرائيلي بالعودة الجزئية.
أما “التايمز” البريطانية فقد شككت في أن يكون أعضاء ءمجلس الأمن الآخرون يشاطرون واشنطن رأيها في العرض الإسرائيلي.
في أي حال فإن هذا الحد الأدنى من الصمود العربي، عبر موقف المقتلعين ومعهم لبنان وسوريا، قد أعطى ثماراً طيبة أخرى، بينها هذا القرار الذي اتخذته أقطار الخليج العربي برفض الدعوة الأميركية لوقف المقاطعة العربية لإسرائيل.
كذلك فإن هذا الحد الأدنى من الصمود العربي قد فرض أرجاء المفاوضات متعددة الجنسيات، وهي الرشوة الإضافية المقدمة لإسرائيل كب تقبل بمبدأ “مؤتمر السلام”، إلى أجل غير مسمى.
لعلها آخر مرة تستطيع فيها الولايات المتحدة أن تلوح بسلاح الفيتو لحماية إسرائيل من الإدانة بجريمة قتل العرب داخل فلسطين وخارجها،
لعلها آخر مرة إذا ما تمكن العرب من تخطي أحقادهم وصغائرهم وضغائنهم وحساباتهم الصغيرة وتلاقوا حول ما يحمي جميعهم من السكين الإسرائيلي ومن العقاب الأميركي في آن.
إنصافاً للأخضر الإبراهيمي
يحس اللبنانيون بتعاطف مع الأخضر الإبراهيمي في محنته الحالية المتمثلة بقرار إقالته من منصبه كوزير لخارجية الجزائر، خصوصاً وإن حكم العسكر قد رفض استقالته وأصر على الإقالة، مع تلويح باحتمال تقديمه إلى المحاكمة بتهمة الفساد.
فالأخضر الإبراهيمي قد أعطى لبنان الكثير من جهده ومن وقته ومن أعصابه، وكاد يدفع حياته ثمناً في أكثر من مناسبة،
وبغض النظر عن مدى النجاح أو الفشل الذي حققه “سي الأخضر” كوزير للخارجية في حكم من طبيعة عسكرية ودموية، فهو لا يستحق مثل هذه المكافأة،
وليس ذنبه أن تكون السعودية قد امتنعت عن دعم بلاده ومساعدتها اقتصادياً، برغم كل الخدمات التي أداها الإبراهيمي للسعودية مباشرة أو عبر صديقه رفيق الحريري.
حتى رفيق الحريري شخصياً لم يحظ من المملكة التي أعطاها أكثر من نصف عمره، بأكثرمن عطف مليكها من دون ريالاته.
وإنه لمن الظلم أن يحاسب الإبراهيمي على صداقاته أو على تقديراته،
وأن يتم التشهير به مع اللغط باسم رفيق الحريري وكأنه أحد المسؤولين عن “خيباته” وبالتالي عن “نهايته” السياسية، أقله في المدى المنظور.