كان بين النكات الشائعة عن المكتب السياسي للحزب الاشتراكي الموحد في “جمهورية اليمن الديموقراطي” طيبة الذكر، أنه كلما التأمت هيئته العامة انتهى الاجتماع وقد نقص عدد الأعضاء، لأن الآخرين أكلوهم…
ونخشى أن تتحوّل النكتة اليمنية (القديمة!!) إلى واقع سياسي أليم في لبنان بحيث يغدو كل اجتماع للرؤساء الثلاثة أو لاثنين منهم (في حال تعذر الإجماع) مناسبة لالتهام أحد الوزراء أو بعضهم!
ذلك أن ليس في لبنان حياة سياسية،
ولأن ليس فيه “سياسة” وقوى سياسية جدية فلا يمكن الاعتداد بالمؤسسات القائمة، لأنها في غياب الصراع الديموقراطي الطبيعي بين تيارات تتنافس ببرامجها (لا بالبراعة في صك الشعارات الطائفية)، وبين القوى الممثلة لمصالح اجتماعية محددة (أي طبقية)، تغدو مؤسسات شكلية: وزراء ولا حكومة، ونواب ولا مجلس نواب، رئاسات ومجلس وزراء وبرلمان ولكن الدولة دائماً “قيد التأسيس”.
ولأن ليس في لبنان حياة سياسية يصبح ممكناً الادعاء باختزال السلطة في “الترويكا”، أي في الرؤساء الثلاثة، وأحياناً في رئاستين من أصل ثلاث رئاسات،
والاختزال هنا اغتيال للمؤسسات وليس توكيداً لحضورها عبر رموزها، فالمؤسسة لا تختزل في شخص (ولا في طائفة)، كما أن الشخص بذاته لا يمكنه أن يستحضر المؤسسة وينوب عنها مهما ارتفعت “أسهمه” وتضخم دوره وتورم “رصيده” في المصرف أو في الشارع باللافتات المثيرة للسخرية!
ليس في لبنان حياة سياسية. فيه ضجيج وأصوات غير مفهومة تتخللها بعض الكلمات أو التعابير السياسية.
ولأن ليس في لبنان سياسة وحياة سياسية أمكن “إقالة” بشارة مرهج من وزارة الداخلية، من غير أي تبرير “سياسي” مقنع… بل ومع الحرص على تجنب إثارة أي موضوع من طبيعة سياسية على هامش إقالة “الوزير الكفؤ والنزيه والآدمي” كما تناوب على التوكيد أصحاب القرار الواضح بحيث لا يحتاج تفسير!!
كمثل حجر ألقي في بركة فأحدث دوياً مكتوماً، واستولد مجموعة من الارتجاجات على سطح البركة، ونثر بعض الرذاذ في الهواء، ثم عادت المياه المحبوسة إلى ركودها في انتظار الحجر التالي!
ولأن لا حياة سياسية ولا قوى سياسية جدية ولا شارع ينبض بالتعبيرات المباشرة عن مصالح الفئات الاجتماعية المقهورة أو المغبونة أو المتضررة، لا يهتم أصحاب القرار بالرأي العام، وكيف سيكون تلقيه لقرارهم، وطبيعة رد الفعل الذي قد يصدر عنه.
كيف يكون ثمة رأي عام ولا حدود بين “سياسيين” يمثلون أقصى اليمين وأعتى المصالح الاحتكارية، وبين “سياسيين” آخرين يحملون رايات الفقراء والمقهورين والمظلومين؟!
كيف يكون ثمة رأي عام والطائفية تقوم كسد عال يفصل بين أبناء المصلحة الواحدة من الفقراء وفي الوقت نفسه كجسر يجمع بين أصحاب المصلحة الواحدة من الأغنياء (سواء بالوراثة أم بالتشبيح أم بالنهب المنظم لموارد الدولة)؟!
في غياب الحياة السياسية والقوى السياسية الجدية تغدو مؤسسة يفترض أن تكون مهابة وذات دور في الشأن الوطني، كالاتحاد العمالي العام، يتيمة بلا نصير، في معركتها لإنصاف أصحاب الدخول المحدودة، ممن لا تكفيهم رواتبهم وأجورهم لكي يأكلوا فيستطيعوا أن يعملوا من جديد لحساب أرباب العمل…
وفي غياب الحياة السياسية لا يتبقى من الرأي العام إلا بعض المعايير والأحكام الأخلاقية والمعنوية..
وهكذا فقد “ولد” بشارة مرهج سياسياً حين استقال.
ذلك أن الخروج من الحكومة بات هو الباب إلى الكبر، أما الدخول إليها فقد اقترب من أن يكون شبهة. كأنما الداخل شريك محتمل في التواطؤ الخطير على المال العام أو الحقيق الخاصة، كما يجري في صفقات التلزيمات والردميات أو في الشركة العقارية لوسط بيروت.
كأنما الخروج إعلان براءة، ولو متأخرة، من هذا الذي يتم في ظروف ملتبسة وعن طريق الخلسة والأكثرية المستفيدة أو العاجزة عن الرفض.
وكأنما محاولة لفلفة الإقالة بامتداح الوزير المقال تستهدف أول ما تستهدف إغراءه بالصمت حتى لا يقول كل ما يعرف عما شهده من ارتكابات ومخالفات خطيرة، خلال توليه منصبه واحتلاله كرسياً من ثلاثين في مجلس الوزراء الذي طالما اختصر في واحد.
والأحكام الأخلاقية خطيرة التأثير، في المدى المتوسط والبعيد، ولكنها مرجأة التنفيذ، بالمعنى المادي، لأن “السلطة” من خارج السياسة لا تعترف لا بالرأي العام ولا بالأخلاق ولا بالقيم والاعتبارات المعنوية.
ربما لهذا فإن السؤال الآن هو: على من الدور؟!
بينما لو كان في لبنان حياة سياسية لما كان ثمة ضرورة لطرح السؤال، إذ كان يفترض أن يكون الدور على أولئك الذين أخرجوا الوزير “الآدمي والنزيه والكفؤ” بغير تبرير،
الله إلا إذا أرادونا أن نفهم أنهم نقيضه تماماَ!
بحث
Subscribe to Updates
Get the latest creative news from FooBar about art, design and business.
What's Hot
المقالات ذات الصلة
© 2025 جميع الحقوق محفوظة – طلال سلمان