الهزيمة يتيمة، ولكنها تصير “أباً” شرعياً لكثير من “الأبناء”، كالاستعداد لمزيد من التفريط ولمزيد من التنازل عما كان يعتبر أساسيات، وإجمالاً للصلح المنفرد والتخلي عن قومية المعركة ووحدة المصير.
والهزيمة تغير بأكثر مما يعير النصر. فالنصر يملأك ثقة بالنفس، وبالتالي يجعلك أكثر استعداداً للتساهل في ما لا تعتبره جوهرياً، أما الهزيمة فتفقدك أولاً ثقتك بنفسك والقدرة على تغيير “القدر” الذي ابتليت به ولا تملك له تبديلاً.
الغريب أن الذين لم يشاركوا في الحروب مع “العدو الإسرائيلي” كانوا الأعظم خوفاً وبالتالي الأعظم استعداداً للتسليم بشروطه. وهكذا تحولوا من قوة إسناد ودعم إلى عامل ضغط على المحاربين من أجل الانتهاء من هذا الأمر باسرع ما يمكن، وبأي ثمن حتى لا يصيبهم – وهم غير مستعدين للقتال ما أصاب المقاتلين.
المهم أن “الحقبة الإسرائيلية” هي وليدة الهزيمة العربية، وإن العرب هم الذين ساعدوا في الترويج وفي التمهيد لها، يستوي في ذلك ورثة “الحقبة الناصرية” في مصر، أو خصومها خارج مصر، “الثوار” الذين طلبوا المواجهة أو هبوا إليها واستجابوا للتحدي بغير الاستعداد الكافي، أو أولئك الذين دفعوهم – بالتحريض أو بالمكايدة، بالمزايدة أو بالمناقصة – إلى مواجهة غير متكافئة وغير مناسبة لا في توقيتها ولا في مكانها ولا في سلاح المبارزة.
فورثة الناصرية في مصر، والسادات عنوانهم، اختاروا النهج المضاد للذي اعتمده زعيمهم الراحل، كما أن المنحرفين بالثورة في أكثر من قطر عربي، أو الذين أغرتهم الثروة وزينت لهم حسنات التصادم مع الثورة، قد اشتركوا في محاولة تدجين الرفض العربي للكيان الصهيوني، كما اشتركوا في تحطيم مقاومة الإنسان العربي للظلم الداخلي والهيمنة الخارجية،
إن الإسرائيليين يحصدون الآن نتائج التقصير والعجز والانحراف.
لقد انتهت الثورة بالهزيمة، أما الثروة فقد انتهت إليهم، وبقوة سحرها يستطيعون شراء المستقبل خصوصاً بعد تشويه الماضي بحيث ينفر منه حتى أهله، فيفترضون أو يوحون للآخرين أنهم كانوا مضللين وقد غرر بهم فانساقوا إلى حيث لا يجوز أن يكونوا.
والإسرائيليون يحصدون فعلياً نتائج انعدام الديمقراطية، عربياً، وتغييب الإنسان العربي، وامتهان كرامته وتدجينه بحيث أنه لم يعد يملك القدرة على قول “لا” لأي كان، يستوي في ذلك حاكمه في الداخل أو عدوه في الخارج.
إن “الحقبة الإسرائيلية” قد بدأت فعلياً عند العرب وقبل أن تباشر إسرائيل ممارسة مقتضياتها عليهم.
لقد سُحق الإنسان العربي وأذل وأهين وحورب في رزقه بحيث فقد القدرة على التمييز بين حاكمه وبين عدوه… وماذا بوسع عدوه أن يفعل به أكثر مما فعله به نظامه؟! لقد استطاع الفلسطيني تحت الاحتلال أن يشهر على الإسرائيلي سلاحه الأخير: الانتفاضة، أما العربي فلا يستطيع أن يقاوم حاكمه لا بصندوقه الاقتراع ولا بالسلاح ولا حتى بحجر الرفض والعصيان.
في ظل حكام الهزيمة ومعاهدات الصلح المنفرد والعجز عن المواجهة وشطب الإنسان العربي دخلتنا إسرائيل فسطنتنا وبدأت تملي علينا تصرفاتنا.
وهكذا فإن المفاضلة لم تكن بين التحرير وبين اتفاق غزة – أريحا أولاً، وإنما بين هذا الاتفاق البائس والمجهول الأبأس منه،
وصحيح أن الذي وقع يتحمل المسؤولية عن وصول الناس إلى هذا القاع السحيق في بئر الهزيمة، لكن الصحيح أن البدلاء لم يكونوا مختلفين بما فيه الكفاية، ولا مقنعين بطروحاتهم بما يمكن من أتباعهم طلباً للأفضل والأكثر… فالسماء مرجع الجميع وملاذهم، ولكنها لا تعوض الأرض، والحل مطلوب للأرض وفيها، أما حساب الآخرة فمؤجل ولا تدخل فيه الكيانات والزعامات والمستوطنات!
لقد انتهى الأمس، وغربت شمس اليوم، وتبقى لنا الغد، فأما أن يضيع كما ضاع ما قبله وأما أن نستدرك فنستنقذه وننقذ أنفسنا وأجيالنا الآتية،
والحساب عما كان، مطلوب وضروري، لكن حماية المستقبل ادعى بالاهتمام.
وليس مجدياً أن نختلف الآن على تحديد المسؤوليات العربية عن الحقبة الإسرائيلية، ولكن المجدي أن نحدد أساليب مقاومتها لإنهائها في أسرع وقت ممكن وبأقل الخسائر الممكنة.
ولن نستطيع شيئاً بغير استحضار العنصر الأساسي في الصراع، والذي غيب في الماضي، والحاضر حتى كان ما كان، وهو الإنسان العربي،
والمشكلة أن معظم الأنظمة القائمة، بما في ذلك النظام الفلسطيني، تحاول إيهامنا أنها هي هو، أي أنها تمثل إرادة الإنسان العربي وطموحاته، وبالتالي فهي تلغيه وتحتسبه كعنصر من مكونات الحقبة الإسرائيلية، في حين أنه – وحده – القادر على إسقاطها.
ولقد تعودنا من إسرائيل أن تغطي جرائمها في الخارج بديمقراطية الداخل، لكن الأنظمة العربية تغطي جرائمها في الداخل بتنازلات غير محدودة وغير مضبوطة بسقف في الخارج (أي مع العدو)، ولا بد من تعديل جذري في هذه المعادلة التعيسة.
الداخل هو المشكلة؟!
بل الداخل هو الحل.
ولكي يفعل الداخل فعله لا بد أن يحسم معركته مع نظامه.
ولقد بات مؤكداً أن إسقاط الأنظمة هو المدخل للخروج من الحقبة الإسرائيلية!
بحث
Subscribe to Updates
Get the latest creative news from FooBar about art, design and business.
المقالات ذات الصلة
© 2024 جميع الحقوق محفوظة – طلال سلمان