“الابتزاز السياسي هو ذروة الإرهاب”، فكيف إذا مارسته أقوى دولة في الكون، أقله حتى إشعار آخر؟!
وها هو تفجير مركز التجارة الدولي في نيويورك يتحول – وبشكل مكشوف – إلى أداة ابتزاز للعرب جميعاً وللمسلمين قاطبة، وحيثما وجد لهم أثر، مع تركيز خاص على الفلسطينيين باعتبارهم أصحاب القضية التي يتلاقى على أرضها من حيث المبدأ، كل الذين صاروا الآن موضع اتهام أو اشتباه وعليهم إثبات براءتهم!
كأنما المطلوب أن يثبت كل عربي، وكل مسلم “براءته” من قضية فلسطين وحقوق شعبها فيها.
بل لكأنما المطلوب أن يعلن كل فلسطيني “براءته” من فلسطين لعله ينال “البراءة” الأهم من تهمة الإرهاب الدولي وتحدي إرادة سيد الكون!
وفي الكتابات الغربية عن حادث التفجير هذا كثير من التهليل لتوجيه التهمة إلى “عربي مسلم” وبالتالي تبرئة “المشبوه” الأصلي أو الذي طرح اسمه بداية، وهو “الصربي” أو “الكرواتي”، وبالإجمال الأوروبي، أي “المسيحي الغربي”.
فجريدة “لوموند” الفرنسية تقول: “إن المقربين من الرئيس الأميركي كلينتون أبدوا ارتياحاً كبيراً كون الشبهات تدور حول شخص من الشرق الأوسط، وليس ضد أي شخص يحتج على سياسة أميركا في يوغوسلافيا السابقة”.
كذلك فإن صحيفة “الغارديان” البريطانية تبشر قراءها بأن “اعتقال المتهم المعروف بصلته بالإسلاميين أدى إلى تحويل التحقيق عن الجانب الصربي والجماعات البلقانية الأخرى إلى الجماعات الإرهابية ذات الصلة بالشرق الأوسط”.
وفي مثل هذه الجريمة ليس المهم فقط أن يُتهم فيدان هذا الطرف أو ذاك، بل المهم أن يُعرف من حظي بالتبرئة وأسقطت عنه الشبهة.
إن اتهام طرف يعني مباشرة تبرئة أطراف، وكلاهما يمهد لابتزاز أو هو ثمرة ابتزاز لم يحقق كل أغراضه.
فالمتهم، على سمع الكون وبصره، هو مدان إلى أن تثبت براءته، إذا ما أتيح له أن يثبتها، وليس بريئاً حتى تثبت إدانته.
ومن شأن تحويل الضحية إلى متهم إدانتها مرتين وطمس قضيتها الأصلية، كما يجري الآن مع الفلسطينيين وسائر العرب والمسلمين.
ومن خلال الاستثمار السريع والبارع للغموض الذي يلف حادث التفجير في نيويورك، تمكنت إسرائيل ليس فقط من أن تشتري براءتها من دم الفلسطيني، وهي تطارده بالقتل ونسف البيوت واقتلاعه من أرضه ورميه في عراء الضمير العالمي، بل كذلك أن تدمغ ضحيتها هذا بتهمة الإرهاب والاعتداء على الأمن الأميركي.
وهكذا بات ممكناً لصحيفة فرنسية معروفة بجنوحها الصهيوني مثل “الفيغارو” أن تقول: “إن إسرائيل كانت أول من حذر واشنطن من نشاط الإسلاميين في الولايات المتحدة، وهي التي أكدت أن حركة “حماس” تمتلك في أميركا هيئة أركان متكاملة تعطي أوامرها للضفة وغزة وتدعم بالمال العمليات التي تنفذ في الأراضي المحتلة”.
إنها عملية ابتزاز مركبة : إسرائيل تبتز الأميركيين بإعادة ابتزاز الفلسطينيين، ثم إنها تحرضهم على ابتزاز إضافي للفلسطينيين الذين يعانون من ضعف خطير كونهم ضحية ابتزاز سياسي يومي من قبل أطراف متعددين، أولهم الإسرائيلي وآخرهم الأميركي، وبينهما العديد من العرب وفيهم ضمناً بعض القيادات الفلسطينية.
اختفت أخبار الانتفاضة.
وتراجعت أخبار المقتلعين الفلسطينيين من أرضهم وهم كانوا ولفترة طويلة (نسبياً) موضوع “صورة الصفحة الأولى” والعنوان اليومي للصحف الغربية (والعربية).
سحبت عن الفلسطيني ملامح الضحية، حتى وحصار غزة مستمرن والقتل أمر يومي مألوف، ونسف المنازل، أو قصفها بالمدفعية يتم جهاراً نهاراً وتنقله عدسات الشبكات العالمية للتلفزيون إلى أربع رياح الأرض.
غدا الفلسطيني إرهابياً فحسب، ولم يعد عدوه الإسرائيلي هدف رصاصه، بل إنه يوجه هذا الرصاص إلى المجتمع المتحضر، إلى بعض رموز التقدم الإنساني، وغلى المجتمع المدني في الولايات المتحدة الأميركية ذاتها، وهو قد بلغها أخيراً وبعدما مارس إرهابه في مختلف أنحاء العالم المتمدن على امتداد ربع القرن الأخير.
… بعد ذلك كيف يمكن للفلسطيني أن يكون مفاوضاً قوياً في مواجهة الإسرائيلي وتحت الرعاية الأميركية؟!
وأية مفاوضات هي تلك التي تجري وأحد أطرافها (العرب) يدخل إلى القاعدة وهو مدان سلفاً بجريمة بشعة تطال العالم كله، وعليه أن يثبت – بالتنازل وليس إلا بالتنازل عن آخر ما تبقى من حقوقه – براءته منها؟!
وهل أفضل من هكذا مناخ لغواية كل طرف عربي على حدة بأن “يبيع” أخوته وينجو بنفسه من التهمة فيكافأ بأن يعتمد لحل منفرد؟!
إن كل “فلسطيني” يكاد الآن يتخفف من فلسطينيته حتى لا تقع عليه اللعنة فيحرم من دخول جنة الحوار مع الأميركي، وبالتالي من اعتماده بوصفه “الطرف المفاوض”، باسم البقية الباقية من “فلسطين”.
بل إن كل “عربي” وكل “مسلم” يكاد يدفع ما تبقى من عروبته وما علق به من إسلامه حتى لا يوقع عليه “الحرم” ويحل عليه غضب “السيد الأميركي” فيعيش ملعوناً ويموت ملعوناً إلى يوم الدين.
كالقابض على الحجر!
ولكن أين بالضبط وقع التفجير: أفي نيويورك أم في الموقف العربي المتصدع أم في الموقف الفلسطيني المتهالك؟!
أما “المسلمون” وبينهم معظم العرب، برموزهم السياسية على الاقل، فهم في واشنطن من زمان، وليسوا في نيويورك، ولذا لم يصبهم إلا بعض الرذاذ.
لاسيما وإنهم كثيراً ما لعبوا، وهم الآن يلعبون، دور الأيادي القذرة في هذا الابتزاز المركب لأخوتهم في الدين، ولأنفسهم أيضاً!
وليس مستهجناً بعد أن نسمع أصواتاً عربية (ومسلمة!) تتوجه إلى السيد الأميركي بالرجاء : من فضلك مارس علينا الابتزاز يا مولاي!
بحث
Subscribe to Updates
Get the latest creative news from FooBar about art, design and business.
المقالات ذات الصلة
© 2024 جميع الحقوق محفوظة – طلال سلمان