مهما بلغت حدة الاعتراض على مسلك الحكم ودوره المحتمل في تهيئة الجو للتدبير الاحترازي الذي اتخذته محكمة المطبوعات بالإقفال التام لمحطة تلفزيون أم. تي. في.، فلا يمكن قبول هذا التجرؤ على لبنان الدولة المستقلة ذات السيادة الذي مارسته، بالأمس، السفارة الأميركية في بيروت ببيانها المصوغ بلهجة تحذير »ناصحة« تكاد ترقى الى ما يشبه الإنذار.
إن هذه السفارة التي تمارس »رعاية شاملة« لمختلف الشؤون السياسية والاقتصادية والثقافية، وصولاً الى الاهتمام بتربية الأبقار، تعتبر نفسها مرجعاً أعلى، بل »لجنة فاحصة« تخضع الحكم لامتحاناتها وتقرر له »العلامة« المناسبة مع ما يرافقها من تنويه أو تقريع!
… وديفيد ساترفيلد، السفير السابق في بيروت ونائب مساعد وزير الخارجية الأميركي الآن، يستبق لقاءاته مع أركان الحكم، باجتماع مسائي فور وصوله الى بيروت، يوم الاثنين الماضي، مع تجمع معارض… وهو أمر خارج على اللياقة في أقل تقدير..
على أن بيان السفارة الأميركية يظل هو »الموضوع« بما تضمنه من نقد وترشيد وإنذار مغلق بلهجة النصح والحرص على تاريخ لبنان مع الديموقراطية.
لكن الحكم يظل مسؤولاً عن أنه قد أعطى فرصة مجانية للسفارة الأميركية للتدخل في الشؤون الداخلية اللبنانية، وفي قضية يفترض نظرياً أنها، بعد، في يد القضاء.
ومع أن فرنسا قد أعلنت بلسان خارجيتها موقفاً نقدياً للتصرف الحكومي تجاه المحطة المعارضة، إلا أنها لم تسمح لسفارتها في بيروت بأن تتجاوز حدودها.
وبمعزل عن البيانات الدبلوماسية، فإن القرار بوقف المحطة هو نموذج عن السلوك الذي برع فيه الحكم: فكلما فرغت أسلحة خصومه ومعارضيه من الذخيرة بادر إلى نجدتهم فوفّر لهم ذخائر جديدة، وكشف لهم عن مزيد من الثغرات ونقاط الضعف التي تفيدهم في محاصرته..
وهو كلما سجل نقطة في »الموقف المبدئي«، وطنياً، تورط فخسر نقاطاً عدة نتيجة المسلك الانتقامي، بالمفهوم الريفي، الذي يعتمده في مخاصمته لبعض الأطراف والقوى السياسية، مما يوسع الفرصة أمام من يريد إضعافه والطعن بكفاءته وإظهاره خصماً لمن لا يرى في نفسه الأهلية للخصومة.
ولولا شيء من التحفظ لأمكن القول إن الحكم في لبنان ناجح كل النجاح في التآمر على ذاته، وفي خذلان من رأوا فيه وعداً ببناء دولة عادلة وقادرة، وفي الإساءة الى أصدقائه والذين وفروا له كل أسباب الدعم للنجاح في مهمته الصعبة، وفي الطليعة منهم سوريا.
ومن المفارقات التي لا يمكن قبولها أو تفسيرها أن يكون مجلس الوزراء قد انعقد مساء الخميس، فواصل مناقشة مشروع الموازنة حتى إقراره، متجاهلاً الأزمة التي كادت تسد على الوزراء الشوارع الموصلة الى »المقر« بجمهور الغاضبين ومستهجني التدبير الاحترازي بإقفال محطة تلفزيونية تصنف »معارضة«.
أي أن مجلس الوزراء، مجتمعاً، لم يجد من الوقت ما يكفي لإعلان موقف ما، بل الكلمة الفصل في مسألة تشغل الرأي العام الداخلي، وتهز وحدة الحكومة، والأخطر: انها توفر سلاحاً لمن يريد أن يشهّر بلبنان وسياساته، ولا سيما تلك التي تمثل التزاماً بثوابته الوطنية، سواء منها ما يتصل بالمقاومة أو بوحدة المصير مع سوريا (وبالاستطراد معارضة الضربة الأميركية للعراق، والتي بات لا ينقصها غير تحديد الموعد… وبالاستطراد أيضاً التشهير اليومي المستمر بالأسرة السعودية والضغط المتزايد على النظام المصري، فضلاً عن الدعم الأميركي المفتوح للسفاح شارون في حرب الإبادة السياسية لقضية فلسطين والإبادة الجسدية لشعبها ومقومات حياته فوق أرضه).
وبطبيعة الحال فإن مجلس الوزراء مجتمعاً لم يجد متسعاً من الوقت للاطلاع على تصريح مساعد وزير الخارجية الأميركي ريتشارد أرميتاج، والذي توعد فيه »حزب الله« بأن »ساعته ستأتي، ولا شك في ذلك«، بعدما صنفه بأنه »بطل فرق الإرهاب، في حين ان تنظيم القاعدة يمكن أن يكون فريق الاحتياط«.
على أن الأدهى من ذلك كله أن الحكم يتورط في أخطاء سياسية فادحة نتيجة »نكايات« وأحقاد شخصية وعائلية، أو »منافسات« على سلطة كل طرف فيه، بينما تشتد الحاجة الى موقفه الموحد في مواجهة المخاطر الهائلة التي تتهدد المنطقة برمتها، والتي يشكل مشروع القانون المقدم الى الكونغرس الأميركي ل»محاسبة سوريا« أحد عناوينها فحسب… وهي مخاطر تفرض ضرورة التنبه ورص الصفوف وتمتين الجبهة الداخلية في وجه هذه العاصفة الأميركية الإسرائيلية التي تهدد بخلخلة الكيانات السياسية وربما إعادة رسمها على امتداد الأرض العربية من وادي النيل في السودان الى وادي الرافدين في العراق، كمرحلة أولى تعقبها مراحل..
في هذا السياق لا بد مرة أخرى من التحذير من مخاطر الريح العنصرية التي تطلقها تصرفات خاطئة لا يمكن أن تصدر إلا عن حاقدين وموتورين كذلك الهجوم الأخرق يوم الأربعاء الماضي على مخيم الجليل في بعلبك، والذي ليس له ما يبرره، والذي فضلاً عن أنه خطيئة بالأساس فإن توقيته يزيد من الاشتباه في استهدافاته.
كيف يؤكد التزامه العربي هذا »الحليف الاستراتيجي« لسوريا إذا كان هو نفسه يستثير مشاعر العداء ضد الفلسطيني اللاجئ المكسور في لبنان، والذي يتعرض لحرب إسرائيلية كاسحة تستهدف اقتلاعه نهائياً من أرضه وتشويه قضيته من خلال التشهير بسلطته لتظهره وكأنه لا يستحق دولة أو استقلالاً أو أبسط حقوق الإنسان كإنسان؟!
إن هذه العينة العشوائية من الأخطاء تكشف كم يقدم هذا الحكم من خدمات ثمينة لمعارضيه، تتجاوز في كثير من الحالات، تمنياتهم، فضلاً عن كفاءتهم وقدرتهم على الحشد.
كما أن هذه الأخطاء تضعف الموقف الوطني المعلن لهذا الحكم وتوفر الفرصة لمثل السفارة الأميركية ان تتجرأ عليه بالنصيحة التي تسبق الإنذار، وبالترشيد الذي يدلل على قصوره، أو خروجه على طبيعة نظامه.
وبالاستطراد فإن حكماً مثقلاً بالأخطاء في ممارساته الداخلية لا يستطيع أن يقدم المساعدة المطلوبة للحليف الأقوى الذي سانده وناصره على الدوام، أي سوريا، في ظرف حرج كالذي تواجهه الآن.
والتوقيت فضاح: فأن »تحاسب« سوريا بينما طبول الحرب على العراق تصم آذان الدنيا، وبينما يتم تفتيت القضية الفلسطينية وتدمير مقومات حياة شعبها، وبالتزامن مع الذكرى الأولى لتفجيرات 11 أيلول، كل ذلك يفرض مزيداً من الجدية والتنبه والوعي بخطورة ما يدبر للعرب جميعاً في مختلف أقطارهم.
ومع التقدير الفائق لأهمية المقعد الانتخابي في المتن الشمالي فإنها لا تعادل مع الأسف ما تتسبب به من خسائر للحكم الذي يحتاج وفي هذه اللحظة تحديدا أن يركز جهده على ما يدبر للمنطقة كلها، ولبنان أساسي فيها، ولسوريا ولبنان حليفها الاستراتيجي بالضرورة كما بالمصلحة.
بحث
Subscribe to Updates
Get the latest creative news from FooBar about art, design and business.
What's Hot
المقالات ذات الصلة
© 2025 جميع الحقوق محفوظة – طلال سلمان