الحرب واحدة، وهي على العرب جميعهم، بحاضرهم ومستقبلهم وموقعهم على خريطة العالم..
لكن العرب “امم شتى”، بل هم اشتات ومزق، كيانات من كرتون بملوك من قش، وحكومات من الاتباع لا تملك دوراً ولا شراكة في القرار..
ضربتهم اللعنة الاستعمارية فوزعت الشعب الواحد في أكثر من كيان سياسي..
وكان لا بد من الطائفية والمذهبية لتبرير تعدد الكيانات المتخاصمة إلى حد العداء..
والطائفية كما المذهبية تأخذ إلى الارتهان للعدو، وتنفَّر من الأخ الشقيق، فهو إذا كان كبيراً فانه طامع بالهيمنة، واذا كان صغيراً فيجب أن يخضع لهيمنة الاكبر.
وهكذا يصير سهلاً زرع الكيان الاسرائيلي بتركيبته اليهودية متعددة الاعراق والجنسيات والمنبت: هو كيان آخر من جملة كيانات اقامتها “الدول” في هذه المنطقة التي كانت واحدة فقسمت دولاً، وكانت “شعوبها” امة واحدة في ماضيها، ويفترض أن تكون واحدة في حاضرها ومستقوية بوحدتها من اجل مستقبلها. لكن ” قوى الامر الواقع” كانت اقوى فمنعتها من التقارب ومن محاولة التكامل، فكيف بالوحدة التي تشكل خطراً داهماً على الكيانات ومصالح الدول الاجنبية… وقبلها جميعاً: اسرائيل.
نفهم الآن، مثلاً، كيف نجحت عصابات “داعش” في اجتياح العراق واتخاذ الموصل، في شمالي ارض الرافدين، عاصمة لخلافتها، ويخطب “خليفته” من على منبر مسجد الحدباء فيه، بينما العراقيون يحاولون تجنب الانزلاق إلى المستنقع المذهبي ويقاومون الفتنة التي يمكن أن تتحول إلى اقصر طريق إلى السلطة والثروة والنفوذ واحلام التفرد بالحكم ولو تقسم العراق بين “داعش” و”الاحتلال الاميركي” وقوى النفوذ والذهب في الاقليم عرباً وفرساً وتركاً.. واكراداً.
ونفهم الآن كيف سقط النظام السوري في اغراء التفرد، وفي الغواية التركية، وفي الغواية الخليجية بعنوان قطر، وضرب اقتصاد البلد الفقير “بالانفتاح” الذي يزيد في ارباح المرتبطين بالخارج بقدر ما يضر باقتصاد سوريا التي تعيش من مواردها الذاتية، وعلى رأسها الزراعة، مع شيء من الصناعة، واستعداد شعبه للعمل بكامل طاقته، من اجل غد افضل لوطنه، من دون أن ينسى فلسطين يوما ومن دون أن يتردد في طلب الوحدة مع مصر عبد الناصر، ومن أن يقصر في نصرة ثورة الجزائر وأي تحرك شعبي للتحرر في أي بلد عربي..
نفهم ايضاً هذه النزعة الكيانية الشرسة عند قسم من اللبنانيين، الذين يرون واشنطن أقرب من دمشق وبغداد والقاهرة، ويهتمون لأهل النفط اكثر مما يهتمون لأهلهم الأقربين.. حتى اذا دقت ساعة تحرير الجرود من عصابات “النصرة” و”داعش” وما ماثلهما او تفرع منهما، تقدم مجاهدو “حزب الله” ليكونوا طليعة التحرير، فيجبروا مقاتلي “النصرة” على الاستسلام والجلاء عن جرود عرسال والتسليم بان ينقلوا إلى ادلب في شمالي سوريا.
بعدها كان طبيعياً أن يتقدم الجيش وحده، ومن دون مجاهدي “حزب الله”، لتحرير جرود رأس بعلبك والقاع، حتى لا يجد دعاة الفتنة “مبررات” لرفض التحرير!
ومع ذلك، وبرغم أن حسم المعركة قد تم ـ فعلياً ـ في القسم السوري من الجرود… وبرغم أن “حزب الله” هو الذي قاتل إلى جانب الجيش السوري، وهو الذي تولى اجبار “داعش” على الاعتراف بمواقع اجداث الجنود اللبنانيين الذين اسرهم في عرسال ثم تولى تصفيتهم ودفنهم قبل اكثر من سنتين، وبرغم أن مجاهديه هم الذين ارشدوا اليها وسلموها إلى الجيش اللبناني، تحت اشراف المدير العام للأمن العام اللواء عباس ابراهيم، والذي يمكن اعتباره بطل الحرب ضد الارهاب عموماً، وأحد ابرز ابطال حرب الجرود، واستعادة جثامين الجنود ـ الشهداء، ومهندس الاتصال مع الجمهورية العربية السورية لتقبل بنقل مقاتلي “داعش” من جرود عرسال إلى الصحراء قرب دير الزور..
برغم هذا كله فان الكيانيين، داخل دست الحكم او خارجه، لا يقبلون الاعتراف بالمساعدة السورية التي حسمت المعركة.. بل انهم يكادون يرفضون الاعتراف بالجمهورية العربية السورية، ويرفضون زيارتها او التحدث مع مسؤوليها، ولو من اجل انقاذ الرهائن اللبنانيين الذين كان “داعش” يحتفظ بجثامينهم..
الكيانيون طائفيون بالضرورة، ومتعصبون إلى حد عدم القدرة على التمييز بين الصديق والخصم، بين الاخ والشقيق والعدو ممثلا بإسرائيل.
ولقد دلت هذه التجارب المريرة، في العراق وفي سوريا، وأساسا في لبنان أن الاستعمار قد يرحل بقواه العسكرية لكن “حلفاءه” ممن رعى وربى وتعهد بإيصالهم إلى موقع القرار، هم اسوأ منه وأخبث وأمكر، خصوصا وانهم اخوة اشقاء وشركاء مصير ولا بد من الاطمئنان اليهم واشراكهم في القرار و”تمييزهم” بالمواقع لعلها تجيء بهم إلى الوطنية!
مبروك هذه الانتصارات المتوالية على عصابات القتل والخطف وتزوير هوية الامة وأقطارها، لا سيما في بلاد الشام..
مع أحر التعازي لمن مول وسلح ووفر المأوى لعصابات القتل وتشويه الدين وانكار الانتماء القومي.
تنشر بالتزامن مع السفير العربي